وربما كان جزءا من الدهشة في الدفاع عن الحزب الوطني الديمقراطي، أن هناك القليل من المعرفة بالتطورات التي جرت له خلال السنوات الأخيرة، وهي تطورات غيرت الكثير من طبيعته والديناميات التي يقوم عليها. عنوان هذا المقال سوف يكون مستفزا لكثيرين حيث تري جماعة أن الحزب الوطني الحاكم لمصر علي مدي ثلاثين عاما أو قرابة ستة عقود-حسب منطلقات القائل من الحزب الناصري أو من حزب الوفد- لا يمكن لعاقل أو حكيم أو _بالطبع- نزيه أن يدافع عنه. فطالما كان الحزب متواجدا في السلطة طوال هذه المدة _ ثلاثون أو ستون سنة لا فرق- فلا بد أنه يتحمل المسئولية الكبري عن كل الأحوال المصرية السيئة والمتدهورة، أو هكذا يقول المنطق المباشر والمستقيم. أما جماعة أخري أشد قسوة، فهي لا تري في الحزب إلا جماعة من المنتفعين، الذين اعتادوا بالإغراء أو بالإرهاب، أن يدفعوا من هم ضعاف القلوب وصغار العقول علي نفاق كل من كان في السلطة وقد حدث أن السلطة واقعة في يد الحزب الوطني وحكومته وجمعية المنتفعين منهما. وهناك جماعة أخري مباشرة، حيث لا يمكن الدفاع عن حزب يقع علي أكتافه جرائم مباشرة لتزوير الانتخابات، والوقوف في وجه الديمقراطية، وسد الطريق أمام تداول السلطة، وعدم الكفاءة في إدارة المجتمع، وضعف الإنجاز السياسي والاقتصادي، ومؤخرا أضيف لكل ذلك الانسحاب من دور مصر الإقليمي !!. والقائمة بعد ذلك طويلة، وبالنسبة لي كانت لي تجربة خاصة للغاية حينما كتبت مقالا بصحيفة الأهرام يوم الاثنين 26 أكتوبر المنصرم تحت عنوان " لماذا الحزب الوطني الديمقراطي؟" طرحت فيها لأربعة أسباب كانت وراء وجودي في الحزب: حرية الاختلاف التي يتيحها الحزب، والتطورات الأخيرة التي جرت للحزب والتي شكلت مفارقة مع تقاليد الاتحاد الاشتراكي العربي داخله، وإيمان الحزب بالسلام في المنطقة، واقتناع الحزب مؤخرا باقتصاد السوق وتشجيع الاستثمار الخاص باعتبارها الأولوية الاستراتيجية للتنمية في مصر. وعندما ذكرت هذه الأسباب كنت متصورا أن الجميع يعلم من مقالات كثيرة لي في الأهرام وفي صحف أخري أن لي موقفا مغايرا لموقف الحزب من التعديلات الدستورية الأخيرة، ومن استمرار قانون الطوارئ، ومن المحاكم العسكرية، ومن بطء التطور السياسي والاقتصادي في البلاد حيث كررت ذلك داخل وخارج الحزب بما يكفي لكي يعطي الجميع فرصة نزيهة للقراءة والتفكير في الأسباب التي عددتها، وكانت مناسبتها هي انعقاد مؤتمر الحزب السنوي. ولكن أحدا لم يقرأ الأسباب، ولا التحفظات التي وردت في ثناياه، ولا تذكر أحد مقالاتي السابقة التي تجعلني محترما للحزب وأغلبيته، ولكنني في نفس الوقت تمتعت بحرية الاختلاف، وهي بالمناسبة لا تخصني فقط بل تخص كل أعضاء الحزب وكثيرون منهم يعبرون عنها بحرية تامة داخل وخارج الحزب. وكان طبيعيا أن يأتي أول الهجوم من رؤساء وقيادات أحزاب أخري- وكثيرون منهم أصدقاء بالمناسبة- وفي صيغة "لم نكن ننتظر منك ذلك؟"- وكان لسان الحال يقول ألا يكفي أن تكون عضوا في الحزب الوطني الديمقراطي، وعضوا في المجلس الأعلي للسياسات- وهي "تهمة إضافية"- ثم بعد ذلك تدافع عن الحزب الوطني. أما الأصدقاء المباشرون فقد كان الموقف أكثر عجبا، فمنهم _وبعضهم أعضاء في الحزب- من رأي أنه لا توجد ضرورة للدفاع عن الحزب، وكان منهم من غمز أنه يتفهم دفاعي عن الحزب في هذه المرحلة من مستقبلي العملي. ولكن ما كان صعبا فقد جاء من طائفتين: أولهما القراء حيث استنكر المتعاطفون معي في العادة-وهم قلة- أن اربط اسمي مع حزب فيه كل هذه المثالب، ووجد غير المتعطفين معي _ وهم كثرة- فرصة إضافية للهجوم الشخصي؛ وثانيهما أفراد العائلة من أخوات وأولاد الذين أشفقوا علي من هجوم وتجريح كان ممكنا تجنبه بعدا عن الشر وغناء له. وقد كان الرئيس الأمريكي هاري ترومان هو الذي قال "إذا كنت تخاف من السخونة، فلا تدخل المطبخ"، بمعني أنه إذا كنت تخاف من نتائج ما تقول وما تفعل فربما كان الأفضل أن تظل بعيدا عن القول والفعل؛ وذلك لم يكن أبدا من اختياراتي العملية، ولذلك بقيت علي مدي العقود الثلاثة الماضية علي الأٌقل أدافع عن مجموعة من الأفكار والمبادئ الديمقراطية والليبرالية السياسية والاقتصادية حتي حفرت الفكرة لنفسها مسارا صغيرا وسط صحراء قاحلة من الأفكار الأخري سواء داخل أو خارج الحزب الوطني الديمقراطي وضعتني أحيانا داخل أكثر المطابخ سخونة. ووسط الانتقادات المتنوعة التي تلقيتها كان هناك فيها ما يثلج الصدر، أولها أن الناس تهتم بما تقول وأن ما تقوله يستحق الرد والتعليق والغضب، وثانيها، أن أحدا لم يتعرض بكلمة واحدة للأسباب التي ذكرتها لانضمامي إلي الحزب الوطني. قال الجميع أشياء واتهامات كثيرة من أول مسئولية الحزب عن غرق العبارة في البحر الأحمر، وحتي حريق مجلس الشوري في وسط العاصمة، واعتبر كثيرون الحزب وراء الفقر والمرض في مصر، ولكن أحدا لم يقف أمام ما قلته من أسباب موضوعية لا بالنقاش ولا بالتحليل. وباختصار كانت نقطة الخلاف علي المبدأ وهو أنه لا يجوز الدفاع عن الحزب الوطني الديمقراطي وكفي؛ فلو كانت النقطة هي خلافات محددة مع الحزب وسياساته، لربما عرف الجميع من مقالات سابقة أنني أشاركهم الرأي في كثير منها، وأختلف أيضا كما أفعل دائما، فيما هو أكثر مع الحكومة والحزب والمعارضة أيضا. ورغم ذلك كله فإنني أعتقد أن الحزب الوطني الديمقراطي يستحق الدفاع عنه ليس فقط لأنه الحزب الحاكم الذي يصيغ ويطبق السياسات، ولكن لأن الحزب فيه من التغيرات والحركة ما يستحق الاهتمام والدفاع أيضا. وقبل أن يقفز أحد للوم أو تشكيك فإنني أعيد التأكيد علي نقاط الاختلاف التي ذكرتها مسبقا، وفي مقالات سابقة، مع السياسات العامة للحزب؛ ولكن الأهم من تسجيل الاختلاف فهو توظيفه في إطار عملية للتطور السياسي في مصر. فالقصد من الاختلاف ليس نفي النفاق، أو رفض الغمز واللمز، وإنما التأكيد علي أن الأمم لا تتقدم بالصراع _ الكلامي أو العنيف- وإنما بالخلاف الخلاق داخل دائرة أو دوائر سياسية بعينها. وهذه النقطة تحديدا هي واحدة من أهم فضائل الحزب حيث يمكن التأثير في السياسات العامة من خلال عملية مستمرة للاختلاف والتوافق. ومن خلال تجربة مباشرة لصناعة قوانين وتعديلات دستورية، فإن الحوار داخل الحزب الوطني كان أكثر نضجا بكثير من الحوارات التي جرت داخل حزب الوفد وحزب الجبهة الديمقراطية- وكلاهما حزب ليبرالي مؤمن بالحوار- والتي أدت في النهاية إلي انكسار الحزبين بين قيادات متصارعة انطلق فيها الرصاص بالنار أحيانا وبالكلمات أحيانا أخري. وفي كل مرة أقرأ مقالا لبعض الزملاء، وكان آخرهم الأستاذ سيد علي- يشير فيه إلي أن الحزب الوطني الديمقراطي لا توجد له " هوية" باعتباره عيبا فإنني أجده ميزة إضافية حيث يتم تحديد سياسات الحزب من خلال عملية للتفاوض الاجتماعي والسياسي وليس من خلال سوابق أيديولوجية، حتي بات بوسع الحزب أن يفخر بأنه الحزب الذي فتح الطريق للقطاع الخاص للاستثمار أكثر من سابقيه، أو أكثر مما توجد شجاعة لدي الأحزاب الأخري لإعلانه؛ ولكنه هو الحزب نفسه الذي يبني الألف قرية الأكثر فقرا في البلاد، ويضاعف بطاقات التموين كما ونوعا، ويعيد تقييم الكوادر التعليمية والصحية، ويزيد من المرتبات الحكومية، وكل ذلك يتم من خلال موارد حقيقية جاءت من ضرائب وموارد جاءت بها عملية التنمية. من هنا فإن حديث الحزب عن " المستقبل" يصبح مفهوما، لأن صناعة المستقبل مهمة عملية برجماتية وليست أيديولوجية، وهو تغير في الحزب يمكن الدفاع عنه لأنه ببساطة يأتي في إطار من المقارنة مع الأحزاب الأخري التي لا تزال سجينة إما في تاريخها أو داخل أيديولوجيتها. وربما ذلك يضع أسبابي للانضمام إلي الحزب في إطارها الطبيعي، حيث الأحزاب لا توجد في فراغ، وإنما توجد في إطار مقارن مع أحزاب أخري كلها تنتقد الحزب الوطني الديمقراطي؛ ولكنها في نفس اللحظة تطلب منه مد العون لكي يقيلها من عثراتها أو يوفق أوضاعها. فالإنسان المصري يدخل حزبا من خلال عملية اختيار بين ما هو قائم، ويظل الاستقلال أحد الخيارات ولكنه أقل الخيارات قدرة علي التأثير والتغيير. وربما كان جزءا من الدهشة في الدفاع عن الحزب الوطني الديمقراطي، أن هناك القليل من المعرفة بالتطورات التي جرت له خلال السنوات الأخيرة، وهي تطورات غيرت الكثير من طبيعته والديناميات التي يقوم عليها. وليس معني ذلك أبدا أن الحزب قد خرج عن السياق التاريخي للتطور السياسي المصري خاصة منذ ثورة يوليو، أو أن تراث الاتحاد الاشتراكي العربي في الجمود يمكن الخلاص منه بسهولة بجحافل جديدة من الشباب الذي شاهد تجارب بلير وكلينتون وأخيرا أوباما في قيادة أمم غيرنا، وعرف وعاش عصر الفضائيات والكمبيوتر والإنترنت وأخيرا "الهولي جرام" ولكن معني ذلك أن هناك تغيرا يفرض علي الماضي المتمترس أن يعيد تعريف نفسه من جديد. وفي يوم من الأيام كانت مشكلة المفكرين المصريين، والأحزاب المصرية، أنها كانت لا تري- عن حق- في الحزب الوطني حزبا حقيقيا، وإنما سلطات حكومية؛ ولكن هذه المشكلة انقضت الآن، وهناك حزب يولد من جديد، وبصيغة مختلفة عما سبق، وبهذا المعني يصح عليه ما يصح علي الأحزاب من مزايا وخطايا وذنوب، ولكنه في كل الأحوال علي استعداد للحوار والجدل مع الآخرين؛ المهم ألا ينكر علي الحزب ما هو متاح للجميع من حق الدفاع والمرافعة والاستئناف، بقدر ما هو مطلوب أن يعطي الحزب الوطني الديمقراطي لكل الأحزاب المدنية المصرية حقوقها الكاملة غير منقوصة !.