الحقيقة أن ما قاله بلير لابد أن يتم تكراره مراراً علي مسامع إسرائيل لأنها المعنية الأولي بتطبيق مضامينه والحد من حركة الاستيطان النشيطة في الضفة الغربية، احتراماً لتشريعاتها أولا، ثم لكسب ثقة الرأي العام الدولي ثانياً مازلت أعتقد، رغم فشل وزيرة الخارجية تسيفني ليفني في تشكيل الحكومة، أنها هي وليس أحد سواها من سيتولي الحكومة الائتلافية القادمة، حتي لو استغرق ذلك بعض الوقت وتم اللجوء إلي تنظيم انتخابات مبكرة بسبب قوة الأحزاب الصغيرة في إسرائيل وميلها إلي فرض شروطها قبل الانضمام إلي الحكومة. وبالطبع يمكننا سرد لائحة طويلة من النقاط المستعجلة التي تنتظر الحكومة الجديدة ويتعين علي ليفني معالجتها بكثير من الواقعية، لاسيما وأن إسرائيل أدخلت نفسها طيلة السنوات الماضية في مشاكل يصعب حلها وفتحت علي نفسها جبهات متعددة؛ لعل أهمها في المرحلة الحالية مسألة المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية التي تعرقل جهود تحقيق السلام ومساعي التوصل إلي اتفاق نهائي ينهي الصراع بين الفلسطينيين والدولة العبرية. فالمشكلة الأساسية بالنسبة لإسرائيل وسكانها الستة ملايين، الذين يقضي معظمهم وقته خارج البلاد، أنها نشأت في بدايتها كدولة لليهود وتريد أن تظل كذلك، وفي نفس الوقت تسعي للحفاظ علي النظام الديمقراطي وثبيت أركانه. لكن عدد السكان الفلسطينيين سرعان ما سيتجاوز عدد السكان اليهود وسيصبح من العسير الحفاظ علي الطابع اليهودي للدولة ما دام الفلسطينيون سيصوتون ضد ذلك، وهو ما يضع الدولة العبرية أمام حل واحد ينسجم مع الإرادة الدولية ويقوم علي قيام دولة فلسيطينية مستقلة تقتسم الأرض مع اليهود وتعيش جنباً إلي جنب مع دولة إسرائيل. وتأكيداً لهذه الحقيقة جاء تدخل رئيس الوزراء البريطاني السابق ومبعوث اللجنة الرباعية إلي الأراضي الفلسطينية، توني بلير، في شهر يونيو الماضي أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس العموم البريطاني، ليطلعهم علي جهوده في الشرق الأوسط منذ مغادرته لرئاسة الوزراء، حيث قال إن "علي إسرائيل أن تتحرك بسرعة، لاسيما فيما يتعلق بالضفة الغربية"، مشيراً إلي أن وضع المستوطنات اليهودية "غير شرعي بموجب القانون الإسرائيلي نفسه، فما بالكم بالقانون الدولي". والحقيقة أن ما قاله بلير لابد أن يتم تكراره مراراً علي مسامع إسرائيل لأنها المعنية الأولي بتطبيق مضامينه والحد من حركة الاستيطان النشيطة في الضفة الغربية، احتراماً لتشريعاتها أولا، ثم لكسب ثقة الرأي العام الدولي ثانياً والحفاظ علي احترام أصدقائها في الغرب، وبخاصة بعدما تعرضت مصداقيتها للاهتزاز عقب حربها الأخيرة علي لبنان في صيف عام 2006. ولا ننسي أن إسرائيل باعتبارها دولة عضواً في الأممالمتحدة عليها واجب الالتزام بالقانون الدولي وتطبيق القرارات الدولية. هذا وقد حرص توني بلير خلال كلمته أمام مجلس العموم البريطاني علي تذكير مستمعيه بأن الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي متمسكان بحل الدولتين محذراً من أنه "في حال اعتماد بديل الدولة الواحدة لشعبين، فإن ذلك سيقود إلي حرب طاحنة". وبالرجوع إلي وزيرة الخارجية، تسيفني ليفني، المكلفة بتشكيل الحكومة نجد أنها تحدثت إلي الفلسطينيين خلال أشهر عدة وتعرف علي نحو واضح انتظاراتهم التي كثيراً ما عبر عنها فريق أحمد قريع أثناء مفاوضاته الطويلة والشاقة مع الفريق الإسرائيلي. ورغم كل ما شاب المفاوضات بين الطرفين من تعثر في بعض مراحلها وتوقفها في أوقات أخري، فقد استطاعا تبادل الأفكار، وباتت ليفني متأكدة من سعي الفلسطينيين إلي إقامة دولة مستقلة خلافاً لما يتردد أحياناً من عودة حل الدولة الواحدة إلي الساحة. فالمطلوب فلسطينياً اليوم هو دولة مستقلة تمتد علي الضفة الغربية وقطاع غزة مع القدسالشرقية كجزء من الدولة واحتفاظ إسرائيل بالجزء الغربي من المدينة المقدسة، وبالطبع لن يكون ذلك ممكناً في حال استمر النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية وواصل اجتياحه لمناطق الدولة الفلسطينية الموعودة. ولاشك أن ليفني تدرك هذه الحقيقة، ما يحتم عليها سرعة التحرك لوقف التمدد الاستيطاني وإنقاذ ما يمكن إنقاذه حفاظاً علي حل الدولتين، ثم لتفادي الوقوع في حتمية الدولة الواحدة للشعبين الفلسطيني واليهودي، وأيضاً لتجنب المصير الذي حذر منه توني بلير والمتمثل في اندلاع حرب بين الطرفين بسبب استحالة التعايش ضمن حدود واحدة. هذا الإدراك لدي رؤساء الوزراء في إسرائيل بضرورة وقف الاستيطان وإفساح المجال أمام نشوء الدولة الفلسطينية، أشارت إليه مجلة "الإيكونومست" البريطانية في 18 أكتوبر الماضي، عندما تطرقت إلي الجهود التي قام بها القادة في إسرائيل لمواجهة المستوطنين في الضفة الغربية؛ "فقد وافق إيهود باراك بين 1999و2001 علي مبدأ تبادل الأراضي واقتسام القدس، كما أن إرييل شارون أفرغ قطاع غزة من المستوطنين، واليوم يقول إيهود أولمرت إنه لابد من تبادل الأراضي علي نحو متساو حتي يحصل الفلسطينيون علي جميع الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967". وبالاحتكام إلي الأرقام، نجد أن عدد المستوطنين في الضفة الغربية قفز من 135 ألفاً قبل عشر سنوات إلي 275 ألف مستوطن حالياً، كما أن المنظمات الإسرائيلية المدافعة عن السلام تشير إلي أن 40% من الأراضي التي يقيم عليها المستوطنون اليهود في الضفة الغربية، تعود ملكيتها للعوائل الفلسطينية. وسواء أرادت ليفني ذلك، أم لم ترد، بسبب الضعف الذي ستكون عليه حكومتها وتجاذبات الأحزاب الصغيرة، فإن عليها أن تتحرك بسرعة لتثبيت حل الدولتين من خلال التعامل الجدي مع مسألة الاستيطان قبل أن تضيع الفرصة ويصبح تصور الدولة الواحدة واقعاً حتمياً، لذا فمن الأفضل البدء في إقناع الرأي العام داخل إسرائيل بضرورة إخلاء المستوطنات في الضفة الغربية إذا كانت الرغبة حقيقية في الحفاظ علي يهودية إسرائيل دون المساس بمكتسباتها الديمقراطية.