التقديرات الحالية تشير إلي أن إيران كانت تمثل " ورقة سورية" بقدر ماكانت سوريا تمثل " ورقة إيرانية"، وأن ماجري كان تحالفا مفتوحا، وليس حلفا إستراتيجيا هناك عقدة أخري تتطلب حلا، فقد كانت هناك دائما تقاليد معروفة مثلت عناوين عامة لتوجهات سوريا الخارجية، ك "تجميع الكروت" تجاه كل الأطراف، و "ممارسة الالعاب" طوال الوقت، في ظل تصورات سورية متوارثة بأن أوضاعها لاتتيح لها خوض صراعات مكشوفة، أو تبني توجهات تعاونية دون حسابات معقدة، والآن يبرز عنوانا عريضا آخر هو "التحالفات المفتوحة"، فإلي أين ستؤدي تلك التحالفات؟ إن مشكلة التحالفات السورية هي أنها تحتاج أحيانا إلي جهد لفهمها، فوفقا لوثيقة بريطانية، تعود إلي ديسمبر 1976، تم الإفراج عنها حديثا، أرسل السفير البريطاني في دمشق، جيمس كريج، رسالة إلي الخارجية البريطانية، حول سياسة سوريا في لبنان، يقرر فيها أنها "عصية علي الفهم"، فهي تتسم بالغموض، كما أنها مليئة بالتناقضات. إن مالم يفهمه " كريج" وقتها، حسب تعبيراته، هو كيف لحكومة يسارية اشتراكية متزمتة أن تضرب قوي إسلامية بتعاون وثيق مع جناح يميني مسيحي متشدد يمثل بعض قادته الإقطاع اللصوصي والرأسمالية المعاصرة، وكيف لحكومة ملتزمة بمساندة النضال الفلسطيني، أن تقصف بالدبابات محاربين من أجل الحرية، وتبذل قصاري جهدها لدفع الفلسطينيين الآخرين ليفعلوا مثلها. لقد حاول السفير البريطاني أن يجد تفسيرا لذلك، فأكد أن مفتاح تلك المسألة ربما يكون شخصية الرئيس حافظ الاسد، لكنه بعد أن خاض في تلك المسالة قال " لاآمل البتة في أن يفسر لك السوريون أنفسهم وسلوكهم"، ثم طرح تفسيرات محددة إعترف أنها تبدو أكاديمية قبل أن يعتذر عن بعضها. ولو قدر للسفير البريطاني أن يعمل لفترة أطول في المنطقة، لواجه نفس مشكلة تفسير التحالفات السورية مرارا. والواقع، إن القواعد العامة التي تحكم علاقات الدول تنطبق علي سوريا مثل غيرها، فبالنسبة لكل الدول لاتوجد صداقات دائمة ولاعداوات دائمة ، لكن _ حسب قاعدة الإشتباك الشهيرة _ مصالح دائمة. وبالتالي فإن مايثار بشأن قيام سوريا بتغيير تحالفاتها حسب تعريفها لمصالحها لايضيف جديدا، ولايعبر عن سمة سورية خاصة. لكن ما لايبدو مفهوما أحيانا في السياسة السورية هو قدرتها علي إنهاء تحالفات إقليمية شبه تاريخية، كان من المتصور أنها ضمن مواريث حافظ الأسد، كالتحالف مع مصر والسعودية في إتجاه إيران، وقدرتها علي تحويل تحالفاتها عموما بأسرع مما هو معتاد بالنسبة للدول، وقدرتها علي إدارة تحالفات تتناقض بشكل صارخ مع خطابها السياسي القومي كما فعلت مع إيران في مواجهة العراق خلال الثمانينات. لكن بالإضافة إلي ذلك توجد نقطتين ملفتتين للإهتمام، هما: 1 _ إن سوريا كانت مرهقة بصفة عامة بالنسبة لحلفائها أنفسهم، فعادة مالاتوجد ثقة يعتد بها، حتي علي مستوي الرؤساء أو مؤسسات الأمن، وهي مستويات يتم عادة التعامل في إطارها بإحترام وجدية، وبأشكال مباشرة. 2 _ إن سوريا تحول التحالفات إلي عمليات صاخبة أحيانا، أقرب إلي العداء، فأي تحالف سوري يتضمن " مؤثرات صوتية"، وأعمال حادة ، تصل إلي حد الخطر، ضد أطراف التحالف الآخر، مما يحولها إلي محاور. الأهم أنه ظلت هناك دائما تساؤلات بدون إجابة تحيط بتحالفاتها لفترات طويلة، فقد بدت سوريا أحيانا وكأنها "ورقة إيرانية" في تحالفها مع طهران، وسط عدم تصديق عام لإمكانية أن تكون غير منتبهة، كما أنها قامت أحيانا بأعمال غير محسوبة عرضت أوضاعها الدفاعية ونظامها السياسي لمخاطر عنيفة، إضافة إلي أن شبكة تحالفاتها الإستخباراتية السرية تعقدت أحيانا لدرجة أدت إلي فقدان سيطرة مؤقت علي " سلوك الآخرين"، وأثارت خلافات داخلية، كما أوضحت الاغتيالات والتفجيرات الأخيرة. هنا توجد حالة مثيرة، فالتحالف السوري الإيراني يعتبر من أعقد أشكال التحالفات التي إرتبطت بالسياسة السورية في الفترة الأخيرة، فلم تكن هناك فكرة محددة في معظم الأحوال حول طبيعته، إذ حاول الطرفان أن يصورانه علي أنه تحالف إستراتيجي، في مواجهة ماسمي " التحالف التركي _ الإسرائيلي" تارة، وفي مواجهة المحور المصري _ السعودي تارة، لكن من يدركون محددات السلوك السوري جيدا كانوا يؤكدون أنه إلتقاء مصالح. لقد شهدت المنطقة في فترات سابقة تطورات مختلفة شكلت فكرة إسمها " الصراع علي سوريا"، وكانت هناك مخاوف عربية حقيقية من أن تكون إيران قد كسبت مثل تلك المعركة الإفتراضية، وأنها تمكنت من التغلغل داخل سوريا من خلال الإرتباطات والإستثمارات والتشييع بدرجة تتجاوز خط اللاعودة، لكن ثبت أن سوريا لاتزال ممسكة بزمام نفسها، وتمكنت من بدء مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل، بوساطة تركية، رغم وجود العلاقة الإيرانية، بل عرضت التوسط لتسوية أزمة البرنامج النووي الإيراني. إن التقديرات الحالية تشير إلي أن إيران كانت تمثل " ورقة سورية" بقدر ماكانت سوريا تمثل " ورقة إيرانية"، وأن ماجري كان تحالفا مفتوحا، وليس حلفا إستراتيجيا، لذا فإن كل التقديرات المنضبطة حاليا تشير إلي أنه حتي إذا تم التوصل إلي إتفاق سوري _ إسرائيلي فإن ذلك لن ينهي التحالف، لكنه سيغير فقط من طبيعته، وقد يحوله إلي " إئتلاف إقليمي"، فلن تتخل سوريا عن إرتباطات نسجت خيوطها، ودفعت ثمنها، عبر سنوات طويلة. هنا تأتي متاعب التحالفات المفتوحة بالنسبة لسوريا، فرغبتها في الإحتفاظ بورقة إيران، وعدم الثقة بشأن ثمن التخلي عن التحالف، سوف يبقي علي تحالف آخر مرهق لطرفيه من ناحية، وسوف لن يكون الوضع الجديد كافيا بالنسبة للولايات المتحدة مثلا _ حسب تصريحات لديفيد ولش مساعد وزيرة الخارجية الامريكية _ لكي تغير سياستها جذريا تجاه سوريا من ناحية أخري، فلم تؤد كل الإشارات السورية عمليا إلي منع الولاياتالمتحدة من شن غارة داخل أراضي سوريا، لتستمر الأحوال علي ماهي عليه، مخاطر أقل وعوائد أقل. إن روسيا تمثل حالة أخري شديدة الجدية لتحالفات سوريا المفتوحة، فقد تطورت العلاقات بين الطرفين إلي درجة أثارت إحتمالات وجود تحالف سوري آخر، يثير نفس الاسئلة التقليدية، خاصة عندما بدأت التفاعلات بينهما تصل إلي المساحة العسكرية، من خلال الحديث عن صفقات نظم دفاع جوي متطورة، وتحديث للدبابات السورية، إضافة إلي الحصول علي غواصات روسية، مع منح روسيا تسهيلات لأسطولها في طرطوس واللاذقية، ومنح شركات النفط الروسية إمتيازات للعمل في أراضي سوريا. وعلي الرغم من أن كل مايدور بين الطرفين يحمل في طياته ملامح إستراتيجية، إلا أن مايبدو هو أنه مجرد تحالف مصالح روسي _ سوري آخر، فروسيا تؤكد أن ماتسميه التعاون العسكري التقني مع سوريا لايخل بموازين القوي في المنطقة، فلديها مصالح محددة تعمل علي تحقيقها، ورسائل معينة ترغب في إرسالها إلي من يحاولون تهديد أمنها. كما أن سوريا لاتبدو علي إستعداد للتوغل إلي أبعد مما ترغب فيه في تدعيم العلاقة الروسية، فهي تريد أيضا أن تحصل علي بعض الأنظمة التسليحية الهامة بالنسبة لها، مع إرسال رسالة للولايات المتحدة بشأن قدرتها علي التأثير علي المعادلات المستقرة في الإقليم، بما قد يدفعها إلي التعامل معها بصورة أكثر مرونة، لكن ليس أكثر من ذلك. أن أيا من الطرفين لايرغب، وربما لايحتمل، أن تتحول العلاقة الحالية إلي تحالف إستراتيجي، رغم أن بعض المؤشرات كانت تدفع في هذا الإتجاه، كالتوترات الروسية الأمريكية بشأن نظم الدفاع الصاروخية، أو التوترات الروسية الإسرائيلية بشأن جورجيا، إضافة إلي المشكلات التقليدية بين سوريا وكل من إسرائيل والولاياتالمتحدة، وبالتالي فإن ثمة توافقا بين دمشق وموسكو علي أن مايجري هو إلتقاء مصالح، لدرجة أن بعض المسئولين علي الجانبين لم يتورعوا عن " الفساد" في إبرام الصفقات العسكرية. إن سياسة التحالفات السورية خلال الفترة الماضية كادت أن تؤدي إلي تغيير المعادلات المستقرة في الشرق الاوسط، فقد أتاحت لإيران أذرعا طويلة في لبنان وقطاع غزة، بما أدي إلي تحولات خطرة، وبدا أن إيران علي وشك أن تهيمن علي الإقليم، وبالطبع فإن تحول توجهات التحالفات السورية إلي " الإنفتاح" علي المحور المضاد، سوف يؤدي إلي سير المنطقة في الإتجاه المضاد، وهناك بالفعل ملامح قلق داخل حركة حماس وحزب الله، وربما طهران تجاه التوجهات السورية. ولقد أدت تلك السياسة أيضا إلي طرح قضايا تتعلق بتصاعد الدور التركي في الشرق الأوسط، والنشاط غير المعتاد لدول صغيرة مثل قطر في التأثير علي شئون الإقليم، لكن ماينطبق علي المستوي الإقليمي لاينطبق علي المستوي الدولي، فاللعبة الأمريكية _ الروسية في الشرق الأوسط لن تتغير لمجرد أن روسيا وصلت إلي سوريا، لأن روسيا نفسها تريد إرسال رسائل، وتحقيق مصالح، وليس إعادة الحرب الباردة. إن إصرار سوريا علي إستمرار تحالفاتها المفتوحة في كل إتجاه، والذي لايبدو أنه يمكن تجنبه، سوف يؤدي بالطبع إلي إنهاء ماسمي خلال الفترة الماضية " العزلة السورية"، فلديها حاليا علاقات مع فرنسا وإتصالات مع الولاياتالمتحدة، وتفاهم مصالح جيد مع تركيا، وتفاعلات مع إسرائيل، وعدم ممانعة بازغ من جانب مصر والسعودية، وبالتالي فإنها تبدو حاليا أقوي مما كانت هي نفسها تتصور. لكن في الوقت نفسه، فإن التعبير القديم الذي يفيد بأن ماتقوم به عادة " يأتي متأخرا، وليس كافيا"، لايزال يلقي بتأثيراته، فلن يقرر أحد ان يتيح لها بشكل نهائي ماتريده، فيما يتعلق ببقاء النظام السياسي، أو مجالها الحيوي، أو أراضيها المحتلة، دون أن تتخذ مواقف محددة، وهي لن تفعل ذلك قريبا، بحكم رؤيتها لأوضاعها الخاصة. إن ذلك سيؤدي مرة أخري إلي إثارة كل الأسئلة القديمة، وتقديم كل الإجابات التقليدية، فالأرجح أن سوريا ستظل هكذا، تجمع الكروت، وتمارس الألعاب، إلي أن تقرر تغيير قواعد اللعبة، أو أن تتغير تلك القواعد رغما عنها. وحتي يحدث ذلك، فإن المرجح هو أن السفراء الحاليين في دمشق، يحاولون _ كما كان جيمس كريج يفعل _ فهم الطريقة التي تدير بها سوريا تحالفاتها الخارجية.