أرجع فوكوياما افتقار المجتمعات العالم ثالثية لتلك الثقة إلي غياب الديمقراطية والشفافية وتخلي الدولة عن دورها المنوط بها وأدائها ،تختل مثل هذه العلاقة السامية . ومن بين إسهامات دولية فكرية عديدة في هذا الخصوص،برزت محاولة فرانسيس فوكوياما الباحث والمفكر الأمريكي من أصل ياباني ، خرج فوكوياما علي العالم بمؤلف غاية في الأهمية أسماه "الثقة: الفضائل الاجتماعية وخلق الرخاء"، نشره عام 1995، ركز خلاله علي أهمية "الثقة" في أي مجتمع بوصفها القوة الاجتماعية التي تمد المجتمعات بالقدرة علي الاستمرار والقابلية للاستقرار في وقت يندب فيه الناس فقدان جوهرهم الديني والأخلاقي. لقد قصد فوكوياما لفت الأنظار إلي أهمية الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي مؤكدا أن شروط أي نجاح اقتصادي واجتماعي تحددها الثقافة والثقة المتبادلة بين الأفراد والمجموعات الاجتماعية في التطور الاقتصادي المستمر،مثلما تفضي الثقة بين الحكام والمحكومين إلي استقرار سياسي إثر تعبيد الطريق للديمقراطية. بعبارة أخري، يري فوكوياما أن الثقة هي أحد مقومات رأس المال الاجتماعي، وأنها شكل ثالث لرأس المال يقف جنبًا إلي جنب مع رأس المال البشري والمادي وهي جميعًا تعكس قدرة البشر علي العمل معًا ضمن إطار موحد تؤسسه وتنظمه الأفكار والقيم. وقد أرجع فوكوياما افتقار المجتمعات العالمثالثية لتلك الثقة إلي غياب الديمقراطية والشفافية وتخلي الدولة عن دورها المنوط بها ،وتقاعسها عن أداء واجباتها حيال مواطنيها ،خصوصا الغالبية الفقيرة والمعدمة منهم،في الوقت الذي لا تتورع القلة القليلة المتبقية عن تكديس الثروات في داخل البلاد وخارجها ،إن بشكل مشروع أو عبر أنشطة وممارسات منافية للأخلاق وخارجة علي القانون. ولا جدال في أن تراجع دور الدولة وانسحابها علي نحو عشوائي وغير منظم من شأنه أن يفاقم من أجواء عدم الثقة بينها وبين مواطنيها ،لأنه يضع المواطنين في مواجهة مباشرة مع أصحاب المال والأعمال دونما رقيب أو ضابط ،بما يؤدي إلي اختلال موازين القوي في المجتمع لمصلحة الفئة المستحوذة علي المال والنفوذ وعناصر الإنتاج . وفي هذا الإطار ،يمكن تفهم تنامي مستوي الثقة المتبادلة بين المواطن وحكومته في غالبية البلدان الديمقراطية المتقدمة وحدوث العكس في الدول الفقيرة وغير الديمقراطية. ففي الأولي هناك مساحة شاسعة من الديمقراطية التي تنطوي علي مزيج رائع من الإيجابيات كالشفافية والمحاسبة وتكافؤ الفرص ،كما أن الحكومات في تلك الدول لا تنزع نحو الانسحاب وترك الساحة خالية أمام القطاع الخاص فيها بغير ضبط للأمور وتنظيم للعلاقة بين ذلك القطاع والمواطن العادي ،وإنما تحرص دائما علي أن تحتفظ لنفسها بدور رقابي مهم يضمن عدم طغيان القطاع الإستثماري علي الغالبية التي تتضمن الطبقة الوسطي والفقراء .ففي دولة مثل فرنسا علي سبيل المثال ،تحرص الدولة علي الإمساك بمفاصل اقتصادية هامة يعتمد خلالها المجتمع علي الدولة بصورة كبيرة، ويمكن ملاحظة أن كبريات الشركات فيها هي شركات حكومية أو ترعاها الحكومة؛ وتقارب إيطاليا هذا الحال إذ إن المجتمع لا يستطيع بناء روابط معمقة وواسعة اقتصادية واجتماعية خارج إطار رعاية الدولة وتدخلها. من بين مكونات وركائز عديدة لمنظومة العلاقة بين المواطن والدولة،والتي يأتي في صدارتها المواطنة والانتماء ،تبدو "الثقة" بوصفها ركنا ركينا لمرتكزات تلك المنظومة .فبدون ثقة المواطن في قوة مؤسسية وصدقية تلك الدولة وفعالية دورها وما من شك في أن طرح فوكوياما بخصوص الثقة يلامس ،بشكل أو بآخر،الحال في بلداننا ،والتي تدهورت مساحة الثقة فيها إلي مستويات مقلقة . فدونما عناء، يستطيع المتتبع للشأن الداخلي المصري خلال السنوات القليلة الماضية أن يلمس تراجعا ملحوظا في مستويات الثقة المتبادلة بين الناس سواء بين الفئات المختلفة وبعضها ،أو بين المواطن والدولة ،أو حتي داخل الفئة الاجتماعية الواحدة .وهو الأمر الذي يعد نتاجا لتغيرات سلبية عديدة اعترت الشسخصية المصرية خلال تلك الحقبة القاسية من تاريخها ،كان لها بالغ الأثر في تبديد الثقة داخل المجتمع ،ليس فقط علي الصعيد الاقتصادي والاجتماعي وإنما أيضا علي الصعيد السياسي ،إذ تآكلت الثقة بين المنتج والمستهلك،حتي بات الأخير لا يثق فيما يروجه الأول من إدعاءات بشأن جودة منتجاته ومطابقتها للمواصفات الصحية والبيئية والفنية ،كما لا يثق العامل في صاحب العمل حتي أضحي كل طرف يتحسس الخطا للتحايل علي الآخر وخداعه ما استطاع إلي ذلك سبيلا .وبدورها ،غدت فئة رجال الأعمال محطا للشكوك وموطنا الشبهات ،بعد أن أصبح معظم رجالاتها في نظر الرأي العام إما من مهربي القروض ،التي هي في الأصل مدخرات المواطنين،إلي خارج البلاد أو من المحتكرين والمتربحين علي حساب آلام الشعب واحتياجات البسطاء ،أومن يكدسون الثروات في وقت لا يكاد المواطن العادي يستطيع سد احتياجات أسرته اليومية . ولم تسلم رموز الدولة هي الأخري من أزمة عدم ثقة المواطن فيها ،لا سيما بعد أن طاولها الإهمال وسوء الإدارة والعشوائية والتخبط ،ولعل ما ألم بالأوضاع الصحية والتعليمية في بلادنا من كوارث وسقطات مؤخرا خير برهان علي ذلك. وعلي الصعيد السياسي،ما برح منحني الثقة المهترئة بين الحكام والمحكومين يواصل الهبوط ،فلا يزال الشعب مشككا في وعود الحكومة وفي جدية و صدقية غالبية سلوكياتها وأفعالها ،الأمر الذي ينعكس جليا إبان الانتخابات، حيث تتراجع نسبة المشاركة الشعبية فيها بالتصويت إلي أقل من 20% . وفي هذا الإطار ،أشار فوكوياما في كتاب الثقة، إلي أن ما يسمي "بالديمقراطية الصورية" ، التي يدعي خلالها الحكام أنهم ديمقراطيون بينما هم غير ذلك ،إذ يلجأون إلي استخدام أدوات التسلط وأسباب القمع للإبقاء علي حكمهم ،وهو ما يفضي في النهاية إلي تآكل الثقة بين أولئك الحكام ومحكوميهم،بما يقود في النهاية إلي إجهاض التوافق الإستراتيجي المطلوب بين النخبة الحاكمة والجماهير ،والذي يعد قاعدة أساسية لأية انطلاقة تنموية شاملة ومستدامة في أي منحي من مناحي الحياة.