انتظرنا سنوات طوالاً حتي شهدنا ذلك اليوم الذي يكرم فيه أمير التربويين فقد جاءت ندوة تكريم رواد التربية بالمجلس الأعلي للثقافة (11/3) وجاء علي رأس المكرمين أميرهم د. جابر عبدالحميد جابر، ذلك الاستاذ الموسوعي صاحب الخلق الرفيع الذي لم يختلف عليه أحد، بل كان مقدراً دائماً من الجميع. وكنت أفخر حينما يتردد اسمه في اللقاءات العلمية ونحن خارج القطر أو تطلب كتبه وأبحاثه، ويزداد فخري لأني أعرفه عن قرب واعتقد جازماً ان هذا الاستاذ نادر في زمننا ليس في مجال التربية فحسب وإنما في كل المجالات.. بحثت عن كلمة جامعة لصفات هذا الاستاذ فوجدت انه ماجد التربويين والماجد: الشريف الخير حسيب المقام، كريم النسب، وهو الرجل المفضال فسيرته التربوية بل الإنسانية تمنحه صفات أكثر. فوالده عمل بالتدريس والقضاء ونشأه علي ان يكون معطاء دائماً، فقد كان يعطي ابناء قريته (كفر العيص كوم حمادة بحيرة) يعطيهم دروساً خصوصية مجانية وفي كل المواد أثناء الإجازة الصيفية، وكان يرسله إلي المسجد في أطراف القرية ليلاً لعل هناك محتاجاً لطعام أو غطاء إذ كانت قريتهم علي طريق الحجيج.. لن نستطيع في مقالنا ان نستوفي سيرته العطرة.. لكن كفاه عفة اللسان وانه لم يرد أي طالب علم أو باحث لجأ إلي بيته فكثيرا ما اصطحبت أصدقاء أو زملاء إلي استاذنا في بيته ففتح لنا خزائن كتبه وأبحاثه بل افكاره العظيمة التي ترشد بتواضع غير مسبوق. بل ويمنحك آخر طبعات كتبه التي بلغت ثمانين كتاباً. أما عن الرسائل التي أشرف عليها للدكتوراه والماجستير فقد جاوزت المائة ولا تسأل عن المشروعات البحثية والمؤتمرات الدولية فهو لا يطاله أحد من أبناء جيله أو ممن يليه بل فاق من سبقوه بأدبه وعدم تكالبه علي مناصب.. ان أعماله لتذخر بقيم إنسانية لا نظير لها إذ تشع نبلاً وعطاء وفكراً؛ أما مؤلفاته فهي تمثل قيمة علمية تزين المكتبة التربوية فهو صاحب المدرسة التي أرست قيماً أخلاقية في التعامل نادرة الوجود لقد كنت محظوظاً حينما تعلمت من كتبه أسس البحث العلمي وازداد حظي حينما عرفته عن قرب بعد ان عاد من جامعة قطر التي اسسها وعمل بها وكيلاً لها وعميدا لكلية التربية بها طيلة عشرين عاماً، وأصبح تلاميذه هم الاساتذة في كل بقاع الوطن العربي.. وكان من مآثره القواميس النفسية وقد لقبه د. علاء كفافي بأرسطو الترجمة العربية لما قدم لمكتبة التربية من قواميس ومترجمات قيمة، فقد بدأ الاستاذ الترجمة والتأليف منذ ان كان معيداً.. يا استاذنا حينما نتلفت عبر الزمن الماضي والحاضر لانجد من يقارب قامتك التي ارتفعت وارتقت بفيض علمك وخلقك وعطائك بل إنسانيتك.. كنت يوماً عائدا في صحبة استاذي من بنها، وحدثته عن ذلك الاستاذ الدكتور العميد الذي اتهم بالرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ وإذا باستاذي يعطيني درساً وحكمة قائلاً ان ما حدث مع هذا الاستاذ في الثمانينيات يحدث الآن عام 98 أضعافاً مضاعفة من الكثيرين أمثاله وها نحن في عام 2008 وتضاعف الفساد والرشوة واستغلال النفوذ بمئات الأضعاف كيف أنسي للدكتور جابر ونحن في أحد اللقاءات العلمية (السيمنار) في إحدي كليات التربية بالقاهرة وكنت جالساً بجواره كالعادة ويعرض احد طلاب الدكتوراه خطة بحثه.. وانبري استاذ يذبح الطالب وأوشك باقي الحضور ان يسلخوه ويشفوه وسمعت منهم ألفاظاً أقل ما توصف به أنها مضللة وغير لائقة، وطلبت من د. جابر ان يتدخل بعد أن دلوت بدلوي المتواضع لأرد ذلك الباطل. وهنا يأتي الاستاذ الذي أعطي الجميع درساً حينما قال: ان وظيفة السيمنار ان يعين الباحث لا أن يهينه أو يجعله نافراً حتي من العلم، إن وظيفة السيمنار ان يبارك الخطة ان كانت جيدة أو يعدلها ان كانت رديئة وأنا أراها جيدة بعدما نحذف كلمة من عنوان الخطة ونجعل عينة البحث من تلاميذ المدرسة. ان هذا الباحث ظل يعد خطته أكثر من عامين وأنتم تريدون هدمه بأن يذهب إلي كلية الآداب بدلاً من التربية فتضيع سبع سنوات علي الأقل، وقد يترك الطالب البحث العلمي نهائياً. وعدلت الخطة وشعرت بالفخر لان استاذي استجاب لنداء الحق والإنسانية وانقذ الزميل العزيز الذي اصبح من خيرة الدكاترة وهو الآن يشغل مركزاً مرموقاً جداً في وزارة الثقافة.. أخيراً سألت استاذي عن برامج التدريب التي لا تحقق آمالها المرجوة أجاب بهدوء: ان برامج التدريب تفسد لان القائمين عليها جوعي ومعظمهم لا يهتم إلا بوضع اسمه في الكشوف وتشغيل أكبر عدد من معارفه وكثير من البرامج مسجلة علي الورق فقط. لم تكن اجابة استاذي مفاجأة فما عهدنا عنه إلا صدق القول والفعل والنية فهو يحتسب عمله كله علي الله، فجزاه الله عنا كل خير ونفع به وبعلمه، فصدقاته الجارية كثيرة وعلمه الذي ينتفع به أكثر وأحسب أن أولاده من خيرة الابناء مصداقاً لحديث المصطفي صلي الله عليه وسلم والذي يتخذه استاذنا معلمه الأول ثم يأتي والده رحمه الله الذي رباه علي ذلك.. د. جابر أنت النموذج لاستاذ الجامعة المحترم وإلي لقاء تقبل كل تحية وسلام من كل من أحبك وقدرك وكرمك مع كل أعمالك. ملحوظة هذه كلمتي التي قلتها في التعقيب علي تكريم استاذ عظيم لم أر مثله، كما قال العقاد في عبقرية عمر لم أر عبقريا يفري فرية أي يصنع صنعة.. هذه كلماتي البسيطة لعلي أوفيك بعض حقك يا أستاذنا فتحية وسلاماً لك.