الأسبوع الماضي كان أسبوع الوحدة المصرية- السورية؛ فقد مضي نصف قرن علي الوحدة التي تم توقيعها في 22 فبراير عام 1958، وبعد خمسين عاما فإن الوحدة بدت حدثا واقعا بالأمس القريب. ولما كانت الوحدة قد فشلت ولم يبق منها الكثير فإن النقاشات كانت حامية حول أسباب الفشل، وقد لفت نظري في هذه الحوارات التي أصبحت سجالات أحيانا مدرسة بأكملها قالت إنه لا ينبغي تقييم ما جري بمعايير اليوم لأن لكل عصر ظروفه ومحاذيره. وهي مدرسة في التاريخ تعرف " بالتاريخانية" أو باللغة الانجليزية HISTIROCISM وهي تقول أن الأحداث التاريخية هي رهن بالظروف التي تجري فيها، وهي نتاج عشرات من العناصر والمتغيرات التي لا تتكرر عبر الزمن. وبالنسبة لحدث الوحدة فقد جرت مثلا في عصر الحرب الباردة، بل أنها حدثت في لحظة بعينها من الحرب الباردة فلم تكن كل لحظات هذه الحرب سواء كانت في الخمسينيات أو ما بعد أزمة الصواريخ الكوبية في مطلع الستينيات أو بعد صعود الوفاق الذي جري في النصف الأول من السبعينيات ولا الحرب الباردة الثانية التي استحكمت في النصف الأول من الثمانينيات. فإذا كانت الحرب الباردة متبدلة ومتغيرة، فكيف يكون الحكم من خلال عناصر ومتغيرات ارتبطت بالعولمة، وبعد سقوط القطبية الثنائية، بل وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. هذا الحدث أيضا ارتبط بظروف خاصة صعب تكرارها، وأبطال لهم سمات خاصة لا يوجد مثيل لهم في اللحظة المعاصرة. فلا يمكن فهم الوحدة المصرية السورية كحدث ما لم ندرج في قلب الموضوع شخصية عبد الناصر التي كان لديها الكثير من الكاريزما والسحر الذي لم يتكرر مرة أخري في شخصيات أخري. وحتي لو كان حزب البعث العربي الاشتراكي لا يزال موجودا علي الساحة العربية فإن هذا الحزب الحالي ليس هو ذلك الحزب الذي كان فيه ميشيل عفلق وصلاح البيطار، ولا كان هو الحزب الذي انقسم بين الفرع السوري والفرع العراقي، بل وحتي ليس ذات الحزب بعد أن تم سحقه بالاحتلال الأمريكي للعراق والحصار الأمريكي في سوريا. وهكذا فإن وجهة النظر هذه التي تركز علي الظروف الخاصة بالمرحلة التاريخية، وهي ظروف كثيرة، تجعل " عقلنة" التاريخ مستحيلة بحيث يمكن الحكم علي أحداث تاريخية حتي في أزمنة مخالفة كما يمكن الحكم علي الجسد الإنساني والتعرف علي الأمراض الواقعة فيه من خلال نفس القواعد ولكن بعد أن تطورت الأساليب وأدوات التحليل. والحقيقة أنه لو سلمنا بهذا المنهج "التاريخاني" فإنه يصبح لا معني أصلا في الاحتفال بمرور نصف قرن علي الواقعة لأنها لن يصبح لها علاقة بالواقع الراهن طالما أنها أسيرة لحظتها وحالها الخاص. وبهذه الطريقة فإن الإنسان لا يكون بمقدوره التعلم من حركة التاريخ، وعلي الأرجح لو كانت وجهة النظر هذه صحيحة أن الإنسان لم يكن ليتقدم علي وجه الإطلاق لأنه بدون التراكم المعرفي بين البشر عبر التجارب الزمنية المختلفة لما انتقل الإنسان من حال إلي حال. ولكن أنصار "التاريخانية" كانوا في الحقيقة يريدون الهروب من المسئولية برداء علمي، أو يبدو علميا، لأن عددا من المثالب والإشكاليات التي كانت موجودة في عصر الوحدة لا يزال بعض منها قائما حتي الآن حيث المنهج الراديكالي سواء القومي أو الإسلامي لازال يرقع نفس الشعارات ويطبق نفس السياسات التي كانت سائدة منذ نصف قرن. وأولي هذه الإشكاليات كانت العلاقة بين الوحدة والدولة حيث كانت الأخيرة لا زال تحبو في أول الطريق بعد أن كانت ضائعة أو ذائبة في ظل إمبراطوريات كان آخرها الخلافة العثمانية. ولم يكن معقولا أن تبحث الدولة التي لم تنته بعد من مهمتها في اختراق إقليمها ومجتمعها وعن تطبيق السيادة التي كانت تبحث عنها من خلال عملية الاستقلال حتي تكون قادرة علي إذابتها في وحدة أكبر. ومن المؤكد أن هناك فارقا قائما بين مصر وسوريا من حيث نضج الدولة ومدي ولاء المواطنين لها، وهو ما ظهر بعد ذلك في تناقضات كثيرة داخل دولة الوحدة. وللبعض فإن إشكالية الدولة مرتبطة بإشكالية الديمقراطية حيث الوحدة تحتفل بالاندماج بينما الديمقراطية مثالها التعددية والتنوع؛ وفي التجربة المصرية السورية فقد كانت مصر تحديدا لا تعرف إلا الدولة المركزية بينما سوريا فقد كانت تعددية سياسيا وطائفيا أيضا. ومن هاتين الإشكاليتين تتولد سلسلة من الإشكاليات التي لبعضها صفات عالمية مثل العلاقة بين الديمقراطية والأمن القومي، ولكن لبعضها الآخر صفات عربية خالصة. فإشكالية العلاقة بين الدولة والأمن القومي في الإطار العربي تبدو أكثر الإشكاليات تعقيدا، فالوحدة المصرية السورية بدت كما لو كانت نوعا من الإنقاذ لسوريا وسيطرة الشيوعيين عليها، وهي معضلة كان يمكن حلها عن طريق التحالف وأشكال أخري من التضامن؛ ولكن الإشكالية استحكمت بعد أن أصبح الصراع العربي _ الإسرائيلي هو هدف الوحدة. ومن الغريب أنه خلال دولة الوحدة التي استمرت ثلاث سنوات لم تقم معركة كبري مع إسرائيل بينما نجحت مصر وسوريا من خلال تحالف طبيعي بين دولتين في خوض معركة ناجحة عام 1973. ولكن خوض المعارك نظريا علي الأقل من خلال الميكروفونات أبرز إشكالية وجود العسكر بصورة كافية لكي يكونوا هم الذين يقومون بالوحدة وهم أنفسهم الذين يقومون بالانفصال أيضا. وتكون المسألة أكبر وأخطر مما هو مقدر عندما تكون هناك وسط العسكر شخصية ساطعة لامعة وكاريزمية وتاريخية بكل المعاني مثل جمال عبد الناصر. هذه الشخصية نزعت كل المسئولية عن المؤسسات ووضعتها عند قدم الزعيم الذي كان دائخا بين مسئوليات كثيرة ومؤامرات شتي فأدار دولة الوحدة عن طريق الخطب ومظاهرات التأييد. وكانت هذه وتلك فيها من السخونة ما يكفي لكي يتم تجاهل الآليات الخاصة بالوحدة أو عمليات التكامل والاندماج والتي تحاول التعامل مع أمور مثل العلاقة بين المركز والأطراف، والأوزان النسبية للداخلين في عملية الوحدة. ولم يحل المشكلة كثيرا أن يكون هناك حكومة مركزية، وأخري للإقليم الشمالي وثالثة للإقليم الجنوبي. وعلي أي الأحوال فإن الحكومات الثلاث لم يكن لديها أفكار مثمرة، أو موحدة، للتنمية الاقتصادية؛ وعندما فعلت وجاءت بالأفكار الاشتراكية كان ذلك قفزة علي الظروف الخاصة بكل بلد، وتأكيدا علي المركزية عندما كانت الحاجة ماسة للامركزية، ولزيادة العداءات من النخب والطبقات الوسطي عندما كان ضروريا التقليل منها. وربما كان الإطار الدولي والإقليمي هو أكثر من قدم الإشكاليات العظمي، فاتحاد دولتين كان منطقيا أن يخلق حالة من الاختلال في توازنات القوي الإقليمية والدولية يدفع الآخرين إلي التحالف ضدها أو التوجس منها في أفضل الظروف خاصة عندما تختلط بالثورة والمشاعر القومية الملتهبة. وعندما قامت الثورات في العراق، معها جرت الحرب الأهلية في لبنان كان كل ذلك انعكاسا لحالة الاختلال هذه؛ وبدلا من أن يكون سلوك الجمهورية الوليدة هو التهدئة وإعطاء الدولة الجديدة- والمقسمة جغرافيا- الفرصة للنمو وسط ظروف هادئة، بدا وكأن الوحدة جزء من مسلسل للثورة الدائمة وعمليات التركيب وإعادة التركيب في المنطقة. وهو ما ظهر بعد ذلك في ظهور الاتحاد الهاشمي، والانفصال الثوري، والوحدة الثلاثية التي ضمت مصر وسوريا والعراق، وفي النهاية ذهب كل طرف إلي حاله سبيله. وعلي أية حال، ومهما يقال عن الوحدة المصرية- السورية فإنها تمثل معملا ضخما لمأساة مدرسة فكرية كاملة في إدارة العلاقات العربية والدولة العربية والعلاقات مع الدنيا والعالم !!.