صدق أو لا تصدق توني بلير رئيس وزراء بريطانيا العظمي السابق وزعيم حزب العمال فيما حقق خلال دورتين للحكم انجازات غير مسبوقة، وكان في وسعه ان يستمر دورة ثالثة محققا النجاح ذاته والفشل الوحيد الذي مني به هو تأييده للرئيس الامريكي جورج بوش في غزوه للعراق فاصابته لعنة بوش واضطر للتخلي عن المنصب الوزاري والزعامة الحزبية. وفي محاولة لمكافأة بلير علي ما قام به في خدمة السياسة الامريكية الفاشلة في افغانستان والعراق تقرر اختياره ممثلا للجنة الرباعية المكلفة بادارة ودفع عملية السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين وسواء نجح بلير في مهمته ام فشل فلن يحاسبه احد. ذلك ان الطرف الفلسطيني ليس طرفا فاعلا، والاطراف الدولية الاخري ليست مهتمة اهتماما حقيقيا بتحقيق السلام علي الاقل وفقا للرؤية العربية والفلسطينية وتحقيق اي تقدم ولو قيد أنملة مرهون بصداقة المبعوث الدولي للمسئولين الاسرائيليين ومرتبط بموافقة هؤلاء المسئولين علي اي خطوة في طريق الحل. والاسرائيليون ليسوا معنيين بتقديم اي حل ولا بالموافقة علي اي حل. ولذلك فان مهام جميع مبعوثي السلام قد فشلت دون ان يطرف لاي منهم جفن ودون ان يحاسبه احد. هذا المنصب الجديد- المقترح- الذي يتسلمه بلير الان يتيح له مساحة من الحرية في التفكير والحركة لم تكن متاحة له وهو في منصبه الوزاري ولكن يبدو انه لن يظل يستمتع بهذا القدر من الحرية طويلا، لماذا؟ لان بلير مرشح للتعيين رئيسا دائما لمجلس اوروبا اعتبارا من العام المقبل بموجب معاهدة لشبونة وهو منصب يمثل واجهة للاتحاد الاوروبي. ترشيح بلير لهذا المنصب الكبير علي مستوي القارة الاوروبية وطرحه علي مستوي العلن اثار الجدل وسوف يواجه الكثير من العقبات بسبب الموقف البريطاني المشكك وغير المتحمس للاتحاد الاوروبي، ولكن هذا الترشيح يلقي تأييدا كبيرا من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي دعا بلير لحضور اجتماع للاتحاد من اجل حركة شعبية وهو الغرب اليميني الذي يتزعمه ساركوزي. بلير واجه مشكلة غريبة منذ ايام، فقد بعث برسالة قصيرة عبر هاتفه المحمول لاحد اصدقائه فرد عليه صديقه برسالة شديدة القصر قال فيها: عذرا، ولكن من انت؟ اسباب المشكلة ان بلير لم يمتلك هاتفا محمولا طوال حياته الوظيفية، وحصل علي اول هاتف محمول منذ ستة اشهر فقط حين غادر مبني رئاسة الحكومة البريطانية في 10 شارع داوننج ستريت، ومن ناحية اخري فهو يعاني من نقص في المعرفة بالنسبة لهذه الهواتف المحمولة ومن ثم فقد بعث برسالته لصديقه دون ان يعرفه بنفسه، وبالتالي لم يتعرف صديقه عليه، ولم يخجل رئيس الوزراء البريطاني السابق والمبعوث الدولي الكبير والمرشح لرئاسة الاتحاد الاوروبي من ان يذكر هذه الحقيقة. عندما نضع هذه الحقيقة جنبا الي جنب مع حقيقة اخري هي ان عدد حائزي الهواتف المحمولة في مصر يتجاوز ثلاثين مليونا فلابد من ان تصيبنا الدهشة والعجب وربما الحسرة علي المليارات التي ننفقها في مجرد لغو الحديث والتي تجعل من صناعة الكلام وتجارة الوقت الضائع هي اكثر الصناعات والتجارات رواجا في مصر، ولو ان المكالمات التي تجري بالملايين كل يوم تستخدم لادارة اعمال او انجاز مصالح او حل مشكلات لكنا من انجح واغني شعوب الارض، ولكن ما هو العمل الذي يتم انجازه او المصلحة التي يتم تحقيقها او المشكلة التي يتم حلها من خلال مكالمة يجريها كناس في الشارع مع زميله في الشارع المجاور او في نفس الشارع؟ وما فائدة وجدوي مكالمة يجريها تلميذ في الابتدائي مع زميله في الفصل المجاور؟ وما قيمة مكالمة يجريها الزوج مع زوجته ليعرف ماذا طبخت له للغداء اليوم؟ وما فائدة مكالمة تجريها جارة مع جارتها لتعرف منها سر طشة الملوخية؟ هذه المليارات الضائعة او الطائشة التي ندفعها بكل بلاهة واسراف في مكالمات تافهة لا تنفع، تكفي لاقامة مئات المصانع والاف الشقق وتشغيل عشرات الالوف من الشباب ولكنها ثقافة الاسراف والمظهرية التي جعلتنا من اكثر شعوب الارض انفاقا في مجال الاتصالات دون فائدة وبلا جدوي والغريب ان نسبة كبري من مستخدمي الهواتف المحمولة هم من اقل فئات المجتمع دخلا، وهذا يجعل الامر اشبه بالمأساة والملهاة او العكس، فنحن نشكر الفقر والفاقة ونولول من ارتفاع الاسعار- وهي كارثة حقيقية- ثم ننفق اموالنا ودخولنا القليلة والمحدودة فيما لا يفيد. وبالنسبة لتوني بلير ليس السياسي الوحيد في العالم الذي لم يمتلك هاتفا محمولا الا في وقت متأخر، كثير من السياسيين من كبار الاطباء لايحملون هواتف محمولة.. وقد سألت طبيبا مشهورا عن رقم هاتفه المحمول فقال انه ليس معه محمول، ولما ابديت دهشتي غير مصدق لما قاله اقسم انه لا يمتلك هاتفا محمولا ولا يفكر في ذلك. واردف قائلا: يكفيني ازعاج الهاتف الارضي في عيادتين وفي المنزل ولا اريد ان اضيف ازعاجا في جيبي او في سيارتي. انه ثقافة المظهرية والتقليد الكاذب والايهام بالوجاهة والثراء وهي الي ذلك خلل في الاولويات، اولويات الامتلاك واولويات الانفاق وهو للاسف خلل في كل مناحي حياتنا. ننفق حيث الانفاق غير مطلوب ولا نجد مالا لما هو اهم وابقي في حياتنا، ولن ينصلح حالنا وتتحسن اوضاعنا الا اذا اصلحنا هذا الخلل، ولنأخذ المثل من توني بلير رئيس وزراء بريطانيا العظمي السابق ومبعوث اللجنة الرباعية الحالي والمرشح لرئاسة الاتحاد الاوروبي.