قليلة هي الكتابات التي تعرضت لحقيقة الدور الأمريكي في حرب السادس من اكتوبر عام 1973 بالرغم من التأثير الهائل لهذا الدور ليس علي مجريات العمليات الحربية فحسب وانما علي نتيجة الحرب وما تلاها من تسويات سياسية لا تزال أصداؤها ممتدة الي يومنا هذا. ولعلنا لا نبالغ اذا ما زعمنا بأن الدور الأمريكي في تلك الحرب قد بلغ مبلغا يدنو من مستوي المشاركة الفعلية في الحرب لمصلحة الجانب الاسرائيلي الذي تربطه بالأمريكيين علاقات تحالف استراتيجي وثيقة،لاسيما وأن المواضع أو المحطات التي برز خلالها الحضور الأمريكي ابان الحرب كانت الي جانب كونها استراتيجية الطابع ،مفصلية وذات تأثير بالغ علي فعاليات المعارك وما تمخض عنها من نتائج وتداعيات سياسية لاحقا . ويمكن القول ان الدور الأمريكي في حرب أكتوبر قد بدأ مبكرا منذ اعداد اسرائيل للحرب عبرالدعم الاستخباراتي والفني بغية تعضيد الاستعدادات الاسرائيلية لحرب وشيكة لم يكن بخاف علي واشنطن وتل أبيب أن المصريين والسوريين بصدد التحضير لها . و مع اندلاع الحرب ،اتخذ الدعم الأمريكي لاسرائيل عبر اشتراكها في الأعمال الحربيةعلي نحو غير مباشر،صورا شتي ما بين الدبلوماسي والعسكري ،فبمجرد عبور المصريين للقناة علي نحو أربك صفوف الاسرائيليين وأدهش الأمريكيين ،بدأ هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية ، واليهودي المعروف بتعاطفه الشديد مع بني جلدته من اليهود والصهاينة، في تنفيذ الشق السياسي والدبلوماسي من الدور الأمريكي في الحرب ،والذي كان يرمي الي الوقوف عند تطورات الموقف علي الجبهة المصرية عن كثب ومعرفة ما يخطط له الرئيس السادات وينوي عليه بغية تزويد الجانب الاسرائيلي به والاستفادة منه في اعداد الخطط المضادة لافشال الانجاز العسكري الذي حققه المصريون خلال الأيام الأولي للحرب الي جانب فك الارتباط بين الجبهتين السورية والمصرية حتي لا تضطر اسرائيل للقتال علي جبهتين في وقت واحد لمدي زمني طويل. وخلال الحرب نشطت دبلوماسية كيسنجرالمكوكية بين واشنطن وتل أبيب و القاهرة ،والتقي الرئيس السادات محاولا وقف زحف القوات المصرية في سيناء حتي يتيح الفرصة لاسرائيل لتكثيف هجومها علي الجبهة السورية، وبعد صدور قرارات مجلس الأمن بوقف اطلاق النار والعودة الي حدود ما قبل الحرب وتنفيذ القرار رقم 242 لسنة 1967 ،كالقرار رقم 338 يوم 22 أكتوبر، ولما لم تستجب اسرائيل له صدرالقرار رقم 339 يوم 23 أكتوبر ثم قرار ثالث رقم 340 يوم 25 أكتوبر ،والذي قرر تشكيل قوات طواريء دولية لمراقبة وقف اطلاق النار، وفر كيسنجر لاسرائيل فرصة هائلة لخرق هذه القرارات وتحقيق مزيد من المكاسب العسكرية علي الأرض من أجل استغلالها في تحسين موقفها التفاوضي بعد ذلك . وجاء قرار الرئيس السادات الصادم والمفاجيء بالوقفة التعبوية من 10- 13 أكتوبر في وقت كانت معنويات الاسرائيليين منهارة حتي ضعفت مقاومتهم وباتوا يتخاذلون أمام التوغل المصري في سيناء، ليساعد الاسرائيليين علي استعادة المبادأة وتكثيف ضرباتهم ليلا ونهارا ضد القوات المصرية، التي اختارت قيادتها وضعها في مرمي الاسرائيليين بغير مبرر استراتيجي ملح،فتلك الوقفة التعبوية حرمت المقاتلين المصريين من استثمار الروح المعنوية العالية الناجمة عن انتصار الأيام الأولي للحرب في تحقيق المزيد من التوغل باتجاه الممرات في الوقت الذي ساعدت الاسرائيليين علي تفادي القتال علي جبهتين لأطول فترة ممكنة ،وأتاحت لهم التقاط زمام المبادأه .فما كاد كيسنجر يخبر الاسرائيليين بنية السادات وقف التوغل حتي نشطوا في تكثيف هجومهم علي الجبهة السورية ومن ثم نجحوا في وقف الهجوم السوري واسترداد ما انتزعه السوريون من أراض حتي تجاوزوا حدود ما قبل عام 1967 الي مسافة لا تبعد سوي40 كم فقط من دمشق ، ليلتفتوا بعد ذلك الي الجبهة المصرية في سيناء ،حيث كان الاسرائيليون ينوون تنفيذ خطتهم المسماة " عملية غزالة " والتي طالما تدربت عليها قواتهم و تهدف بدورها الي نقل العمليات العسكرية الي أرض الخصم في غرب القناة بعد أن تنجح القوات الاسرائيلية في اختراق الخط الدفاعي الذي تقيمه القوات المصرية بعمق محدود في سيناء لا يتعدي 12- 15 كم شرق القناة وقوات متفرقة في ثلاث رؤوس كباري تفتقد جميعها للاحتياطي الاستراتيجي الكافي. وبذلك تسني للقوات الاسرائيلية تعديل وضعها العسكري علي الجبهتين السورية والمصرية بما يخدم موقفها التفاوضي بعد صدور قرار مجلس الأمن بما يسمح لها بفرض طروحاتها وشروطها للتسوية علي المصريين والسوريين . بيد أن أخطر وأهم مستويات المشاركة الأمريكية في حرب السادس من أكتوبر هو ما تجلي فيما عرف بالجسر الجوي الأمريكي لدعم اسرائيل عسكريا بداية من فترة الوقفة التعبوية التي حددتها قيادة القوات المصرية ما بين 10- 13 أكتوبر وطيلة 23 يوما من 13 أكتوبر وحتي 14 نوفمبر،فقد كانت الولاياتالمتحدة تتهيأ لتنفيذ خطة تهدف الي تعويض اسرائيل عما فقدته من معدات أثناء الأيام الأولي للحرب ومساعدتها علي الوقوف مرة أخري علي أقدامها واستيعاب الضربة الموجعة التي تلقتها من المصريين والرد عليها بضربة مضادة أشد ايلاما ، ومن ثم شرعت الولاياتالمتحدة في نقل الأسلحة والمعدات المتطورة الي ميدان القتال مباشرة حيث كانت تهبط الأسلحة الأمريكية الحديثة التي لم تستخدم من قبل في مطار العريش بشمال سيناء، واستخدمت واشنطن في عمليات النقل هذه 238 طائرة نقل نفذت 569 طلعة جوية نقلت خلالها 22.5 ألف طن معدات عسكرية وأسلحة،كما شاركت ثماني طائرات نقل مدنية تابعة لشركة العال الجوية الاسرائيلية نقلت 5500 طن معدات عسكرية،بخلاف ما تم شحنه بحرا وبرا ،حتي بلغ اجمالي ما تم شحنه من أسلحة ومعدات عسكرية أمريكية الي ميدان القتال لمصلحة الاسرائيليين 23 ألف طن من المدافع والدبابات والعربات المدرعة ،أي 74% من الاحتياجات المنقولة،الأمر الذي أفضي الي تغيير مسار الحرب بشكل كبير لمصلحة الجانب الاسرائيلي. ولم تكتف واشنطن بالدعم الاستخباراتي والتسليحي عبر الجسر الجوي ،وانما واصلت دعمها اللوجيستي للقوات الاسرائيلية ابان الحرب في محاولة لاجهاض خطة مصر لتطوير الهجوم في عمق سيناء باتجاه غرب الممرات أو المضايق الجبلية من أجل تخفيف العبء عن الجبهة السورية من جانب واجهاض مساعي اسرائيل للقيام بهجمات مضادة باتجاه رءوس الجسور من القنطرة شمالا وحتي السويس جنوبا أو العبور للضفة الشرقية من جانب آخر. ففي الساعة الواحدة ظهر يوم 13 أكتوبر أبلغت قيادة الرادار بقوات الدفاع الجوي المصري عن رصدها طائرة استطلاع استراتيجي أمريكية من طراز SR71 اخترقت المجال الجوي المصري بدء من بورسعيد في الشمال وطافت سماء الجبهة من شمالها الي جنوبها علي جانبي قناةالسويس ثم الوادي عند قنا ثم اتجهت شمالا نحوالدلتا ، والمثير في هذه الحادثة أن الطائرة المذكورة لديها قدرة فائقة علي التقاط صور بالغة الدقة بوسائل متطورة من مسافات بعيدة وهي تطير بسرعة 25كم/ساعة وثلاثة أضعاف سرعة الصوت ،ولم يكن بوسع الدفاعات الجوية المصرية في حينها التعامل معها،الأمر الذي ساعدها علي القيام بمهمتها بنجاح تام والعودة الي البحر المتوسط مرة أخري بسلام . وبذلك، تكون الولاياتالمتحدة ومن ثم اسرائيل قد صارتا علي علم تام بأوضاع وتحركات القوات المصرية شرق القناه وغربهافي طور الاستعداد لتطوير الهجوم شرقا باتجاه الممرات مما كشف للاسرائيليين تفاصيل خطة التطوير والثغرات المتاحة بين القوات المصرية ونقاط الضعف ،ومن ثم وضعوا الخطط المضادة من أجل اجهاضها،والتي كان من أبرزها وأنجحها خطة الالتفاف الاسرائيلي لمحاصرة الجيش الثالث في منطقة الدفرسوار،وهي الخطة التي نجحت الي حد كبير في تغيير موازين الحرب, لاسيما بعد أن أجهضت خطة مصر لتطوير الهجوم شرقا وخولت اسرائيل التموضع عسكريا شرق القناة بالشكل الذي يدعم موقفها التفاوضي عقب وقف اطلاق النار. وفي ذات السياق ،تجدر الاشارة الي أن التدخل الأمريكي غير المباشر في حرب السادس من أكتوبر لم يكن فقط محددا بالغ الأهمية في توجيه مسار العمليات العسكرية والتفاوضية بين اسرائيل من جهة ومصر وباقي دول المواجهة العربية من جهة أخري،وانما كان بمثابة توطئة لتنفيذ مخطط أمريكي أكبر لاعادة صياغة الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط بما يخدم المشاريع والمصالح الأمريكية المستقبلية فيها. فمثل هذه المشاريع كانت تحتاج الي بيئة مهيئة عبر تسوية سلمية أمريكية المنشأ بين العرب واسرائيل،وهو ما لا يتأتي الا من خلال كسر شوكة معسكر الرفض الاسرائيلي المتغطرس منذ حرب الأيام الستة وارغامه علي القبول بالمفاوضات مع العرب اثر انتصار عسكري جزئي مصري غير مسموح له بالاكتمال من قبل الأمريكيين, لتخرج علي اثر ذلك أكبر وأهم قوة عسكرية عربية من معادلة الصراع العسكري بين العرب واسرائيل،ويصبح الشق العسكري من الصراع والقائم علي المواجهات العسكرية بين الجيوش النظامية مجمدا ، في حين يحتكر الأمريكيون عملية ضبط ايقاع شقه التفاوضي.