يكره الناس في مصر الولاياتالمتحدة لأسباب متعددة يرونها، ولكن بالنسبة لي فإن هناك سببا آخر وهو أنه لم يعد ممكنا مناقشة قضية من القضايا المصرية خاصة تلك المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان حتي نجد واشنطن تطل برأسها فيخرج الحوار عن مساره وطريقه، وتصبح المسألة ليس حالة السياسة في مصر والممارسات المتعلقة بالحقوق التي قررها دستور البلاد المصري تماما لحما ودما، وإنما بما تريد وتنتويه الولاياتالمتحدة ذات العلاقات الوثيقة مع إسرائيل كما هو معروف. وهكذا ما أن تجتمع أمريكا وإسرائيل في أمر حتي يصبح مشحونا تماما حتي يختفي الموضوع الأصلي؛ وزاد علي ذلك في الآونة الأخيرة الموقف الذي باتت تتخذه الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي والعديد من منظمات المجتمع المدني العالمية حيث أصبحت كلها فجأة جزءا من "جوقة" عالمية معادية لمصر وموالية للإمبريالية والصهيونية. المدهش في الموضوع أكثر أننا لم نعد ندافع عن أنفسنا في القضية، بمعني أننا لا نقوم بالتحقيق في الاتهامات الموجهة إلينا بل أصبح دفاعنا الرئيسي كما جاء في عدد من الصحف القومية هو رفع راية "المعايير المزدوجة" بحيث نسرد حوادث جري تداولها في الصحافة الغربية بل وتم عقاب مرتكبي جرائمها مثل حادث رودني كينج في الولاياتالمتحدة للتدليل علي أن مخالفات حقوق الإنسان هي فضيلة عالمية ولا تخصنا نحن فقط. وبهذه الطريقة نصبح مثل الأطفال الذين لا يكفون عن قول "اشمعني" لتبرير أخطاء ارتكبوها، أو مثل بعض المجرمين الذين لا يكفون عن الاعتداد بأن آخرين قد أفلتوا بجرائمهم بينما نزل عليهم العقاب فقط، أو بكثير من الفاسدين الذين يضربون الأمثلة بمن هم أكثر فسادا. فكما يقال فإن وجود خطأين متماثلين في قضية لا يجعل أحدهما مبررا أو مقبولا أو حقا، فكلاهما سوف يظل خطأ أخلاقيا وعمليا مهما كانت الأحوال. والأهم من ذلك، أن الرافضين للتدخل الأجنبي أيا كانت صوره، وهم علي حق تماما، يصبح الهم عليهم مضاعفا للدفاع عن حقوق الإنسان المصري ليس إرضاء لأمريكا أو المنظمات الدولية وإنما إرضاء للإنسان المصري، والتزاما بالدستور والقوانين المصرية. هذه المعضلة لا بد وأن نصل فيها إلي حلول داخلية تستند إلي المؤسسات المصرية وليس إلي غيرها، والمهم أنه عندما نصل إلي ذلك ينبغي ألا نقحم التدخلات الأجنبية في الموضوع حتي يبدو الأمر وكأنه وسيلة لإخراس كل من يريد الحديث، فالسند الوحيد، والمرجعية الوحيدة هي الدستور والقانون، والأداة الوحيدة ينبغي أن تكون المؤسسات الوطنية المصرية وليس غيرها. بل وأكاد أقول ان تفعيل هذه المؤسسات وإعطاءها الفرصة سوف يكون الوسيلة التي تسكت هؤلاء الذين يتطوعون من الخارج دون دعوة لإنقاذ حقوق الإنسان في مصر. هنا فإنني أعطي أهمية خاصة للمجلس القومي لحقوق الإنسان، وهو المؤسسة التي تمت إقامتها لهذا الغرض تحديدا، وتم اختيار صفوة من المفكرين والقانونيين والشخصيات العامة لكي تحقق وتبحث وتخرج التقارير الموضوعية التي تراعي المواءمة والملائمة في النطاق السياسي المصري. ومن ثم فإنه لا ينبغي بعد كل ذلك أن يتم استبعاد هذه التقارير، بل انه يجب اعتمادها واعتبارها مرجعا أساسيا لحالة حقوق الإنسان في مصر يكون هو الحكم بين المؤسسات المختلفة في هذه القضية الهامة. وفي الحقيقة فإنه لا يهم المواطن المصري كثيرا عما إذا كانت الولاياتالمتحدة تخالف حقوق الإنسان الأمريكي أو لا، كما أنها لا يهمه كثيرا عما إذا كانت واشنطن تنقد تراث حقوق الإنسان في مصر للتغطية علي فشلها في العراق أو لمخالفتها حقوق الإنسان في سجني أبو غريب أو جوانتنامو؛ فما يهم المصريين أمر سوي حقوق الإنسان المصري أما حقوق الإنسان الأمريكي فتلك تخص الأمريكيين وحدهم. أما إذا كان الأمر يهمنا لهذه الدرجة، فمن الواجب أن نفصل الدفاع عن حقوق الإنسان الأمريكي واستخدامها كتبرير للانتقاص من حقوق الإنسان في مصر، فلا يمكن تبرير المخالفات المصرية لأن الواقعة عليهم من "أرباب السوابق" أو "المسجلين" خطر حسب ما يعتقد البعض منا. والحقيقة أنه مثل هذه المخالفات في الحالة الأمريكية موجودة بالفعل علي شبكات المنظمات العالمية، وكذلك المنظمات الأمريكية أيضا، وليس صحيحا ما يقال أن أحدا لا يهتم بها لأننا نعرف بها عن طريق هذه المصادر. ولكن أهل مكة أدري بشعابها، وما علينا إلا أن ندري بشعابنا نحن وما فيها من أشواك؛ وليست القضية في جوهرها مجرد تسجيل لحالات المخالفة لحقوق الإنسان للتشهير بنظام المؤسسات المصرية، وإنما السؤال الأهم الذي علينا الإجابة عليه فهو لماذا يحدث ما يحدث من مخالفات لحقوق الإنسان؟. فربما كانت المشكلة في الموضوع أنه قد بات موضع استقطاب اجتماعي وسياسي بحيث تبدو الحكومة علي جانب والمعارضة علي الجانب الآخر، مع أن المتهمين بالتعذيب والتجاوز في التحقيق ينتمون لجميع طبقات وطوائف المجتمع، وشمال وجنوب الوطن، وريفه وحضره. فمن المؤكد أنه لا يوجد في الأمر علي الأغلب نوع من الرغبات الانتقامية، ولكن المرجح أن الأمر يحدث لاعتبارات مهنية وموضوعية لم يسبق أن اهتم بها المجتمع السياسي وآن الأوان لكي يهتم بها. فإذا كان المجتمع والدولة يهتمان بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فلماذا لا يكون هناك نوع من الإصلاح الإنساني والأمني الذي يعيد للإنسان اعتباره مهما كان.