ما حدث في قاعات المحاكم المصرية من اعتداءات وانفلات في السلوك يشكل سابقة جديدة وخطيرة، بالاضافة الي ما يحدث من ممارسات وأساليب جديدة في تعامل الدولة مع القضاة، وحشد المتهمين لانصارهم في المحاكم للتهليل والهتاف والصراخ والشغب، مما يشير الي صور خطيرة. وعلي الرغم من علمي بعدم جواز التحدث أو التعليق علي التوابع القضائية لهذه المهزلة فانني لا أستطيع أن اصمت عن أداء تحية واجبة للسيد المستشار/ عبد المجيد محمود النائب العام الذي استشعر بأمانة خطورة الذي حدث في قاعة المحكمة مما أدي لاصدار النيابة العامة لأوامر بحبس "22" من أنصار ومشجعي النائب/ عماد الجلدة لمدة "15 يومًا" بعد أن وجهت لهم النيابة تهمًا عديدة بذلك الخصوص وقد ازدادت في الحقيقة سعادتي نسبيًا واستقر فؤادي إلي حد ما عندما قرأت وعلمت أن التحقيقات ستطول أي شخص تثبت علاقته بتلك الأحداث العبثية ابتداءً بالاعتراض علي الحكم ذاته ووصولاً إلي اثارة الشغب من قبل أنصار المتهمين أو المحكوم عليهم. علي أية حال واتساقا مع ادراكنا العميق بخطورة ما حدث والخوف من احتمال تكراره فإنه بمقدورنا أن نقيم تلك الحادثة المؤسفة وأن نردها إلي أصولها الاجتماعية التي أفرزتها فمما لا شك فيه أن حادثة المحكمة تشير بوضوح مع غيرها إلي حالة التفكك الاجتماعي "Social Disorganization" أن الفوضي الاجتماعية التي باتت تفسر الكثير مما نعايشه ونعانيه فأي نظام اجتماعي يتطلب عادة أو بمعني أصح دائمًا قدرًا من الالتفاف حول مجموعة من القيم الجمعية والمعايير العامة لضبط حركة المجتمع ومن ثم استقراره وهي التي تخلق الحد الأدني من التفاهم المشترك بين أبناء المجتمع أو الوطن الواحد كما انها تتطلب شعورًا وإدراكًا جميعا يدفع الفاعلين الأفراد نحو وضع مصالح الآخرين في حسبانهم اثناء سعيهم لتحقيق مصالحهم الشخصية ويستلزم ذلك بالطبع قدرًا من الاستمرار في نمط التفاعل الجمعي عبر فترة طويلة من الزمن بحيث تكسب العلاقات الاجتماعية طابعًا خاصًا يظهر من خلال العمليات التفصيلية التي تتكرر علي نحو منتظم ومن ثم فانها تخلق نمطًا عامًا مميزًا يسم أي مجتمع ويحدد هويته. وعلي الرغم من صعوبة بلوغ المجتمعات المختلفة عادة إلي تلك الحالة المثالية التي يتحقق فيها ذلك التناغم النموذجي والذي تختفي فيه مظاهر عدم استقرارها إلي أقصي درجة ممكنة إلا أن الملاحظ علي المجتمع المصري - خاصة في السنوات الأخيرة - أنه بدي وكأنه أكثر ميلاً للاتجاه نحو عدم الاستقرار الاجتماعي وأكثر استعدادًا لقبول فكرة فقدان هيبة الدولة وسيادتها، وإذا لم يكن ذلك صحيحًا فكيف يمكننا تفسير حالة الاستهانة الفجة بالقضاة والقضاء مثلما حدث مع النائب/ عماد الجلدة ومريديه مؤخرًا فالمعروف والمستقر أن هيبة الدولة وسيادتها لا تنفك ولا تنفصم عن هيبة السلطة القضائية بها وعندما يحدث مثل ذلك الانفكاك الاجتماعي فإن علينا النظر في أسبابه أو التعرف علي عوامله الفاعلة ومن ثم إدراك الآثار السيئة المترتبة عليه واللازمة لمواجهته. وربما كان كل ذلك هو الذي دفع بالدكتور/ أحمد زايد عالم الاجتماعي المعروف لدراسة هذه الظاهرة والتعليق عليها وذلك في ورقته البحثية التي قدمها إلي مؤتمر القمة الاجتماعية "الأبعاد الدولية والاقليمية والمحلية" والذي نظمه مركز بحوث ودراسات الدول النامية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة في عام 1966 تحت عنوان "فرضيات حول دراسة التفكك الاجتماعي في مصر المعاصرة"، وقد توصل الدكتور/ أحمد زايد في دراسته الهامة تلك إلي العديد من الملاحظات والنتائج العلمية المفيدة المفسرة لحالة التفكك الاجتماعي التي شهدتها مصر خلال العقود القليلة الماضية، وقد رأيناه يميل في طرحه لقضية التفكك الاجتماعي في مصر اعتمادًا علي نمط أو نموذج التفكك البنائي، وذلك في ضوء نمط الحداثة الذي تخلق في المجتمع المصري كمجتمع متغير وارتباطا بالظروف التاريخية التي انتجته فهو يري أن ذلك التفكك هو في الحقيقة محصلة لتراكمات تاريخية أدت في نهايتها وبتأثير عوامل سياسية واقتصادية وثقافية إلي انتاج وفرض أشكال قسرية من الحداثة التي خلقت أشكالاً من السياسات والنظم والكتل الاجتماعية التي يعوزها التكامل والتناغم والتنظيم كما يعوزها التراكم التلقائي الايجابي. وقد أكدت دراسات عديدة أخري علي أن ظروف التحول في المجتمع المصري وعوامله المختلفة قد أدت في الحقيقة إلي خلق بناء اجتماعي علي درجة كبيرة من عدم التجانس وللا تماسك بما يجعله دائمًا عرضة لمزيد من التفكك وفي مثل تلك الظروف فلن يكون مستغربًا ملاحظة حالة السيولة التي تنتاب ذلك البناء الاجتماعي المصري فأحيانًا يمكن ضبط ذلك المجتمع، وفي أحيان أخري يؤدي بناؤه الاجتماعي إلي السماح بتفكيكه إلي حد كبير لذلك فإن المتتبع لمسيرة البناء الاجتماعي المصري، سوف يكتشف أن الدولة كانت تقوم دومًا بدور هام في هذه العملية وعليه فان وضع الدولة - قوة وضعفا خطابا وممارسة - كان دائمًا محددا رئيسيًا للحالة التي يكون عليها البناء الاجتماعي فالدولة بحكم تكوينها كانت هي الأداة الوسيطة في تطور الأبنية المحيطة ومن ثم فان نمط ادائها ارتبط دائمًا بالتأثير علي نمط الاستقرار أو التفكك داخل البناء الاجتماعي المصري، وعلي ذلك بقي المجتمع المصري ولا يزال - تحت تلك الظروف - في حالة من التشكيل والتغيير الدائمين فالمجتمع هنا لا يأخذ أبدًا شهيقًا وزفيرًا كملين فتستقيم انفاسهم انه علي العكس من ذلك فلا يكتمل فيه شهيق أو زفير، ومن ثم فإن أنفساه متقطعة وصور الحداثة والتقدم لا تصل فيه أبدًا إلي غاياتها وهنا تطفو صور وأشكال التفكك لتخلق في النهاية بنية تبدو من الخارج وكأنها متجانسة ولكنها تكون حبلي دائمًا بصور من التناقض والتعارض. هناك جانب آخر أعتقد انه من الواجب الاشارة إليه والاستعانة به ونحن بصدد محاولة تفسير بعض الذي حدث من مهازل في هذه الجلسة وأعني بذلك حالة الهستيريا وانفلات السلوك التي انتابت جمهور النائب/ عماد الجلدة ففي الواقع فإن أحكامنا أو آراءنا الشخصية في الأشخاص الآخرين تعتبر من الأمور الهامة التي لا مفر من اللجوء إليها طالما كنا نتحرك في وسط اجتماعي سواء في عملنا أو لهونا في حدنا أو هزلنا وكلما كان حكمنا علي الشخصية التي نتعامل معها أو رأينا فيها أو فهمنا لها قريبًا من الصواب فإن كل ذلك يفيد في التعامل معها ومع ما يرتبط بها من قضايا. واستطيع القول بهذا الصدد وفي ظل قراءتي المتواضعة في مجال "سيكولوجية الشخصية" بأن الجمهور الذي هدم هيكل المحكمة علي من فيه هم أشخاص لهم أنماط سلوكية خاصة يستجيبون بها للمثيرات التي تقع عليهم ويمتد ذلك إلي تعبيرات الوجه أو الاشارات الجسمية أو الحركات التعبيرية أو الأساليب الانفعالية أو طرق التفكير وغيرها من استجابات كما أن لهم سمات شخصية محددة من أهمها ظهور السمات الوجدانية والانفعالية عليهم بشكل طاغ فهم سريعو الانفعال والهياج كما أن لديهم ميلا اجتماعيا مكتسب في اتجاه العدوان وكذلك فإن لهم سمات مزاجية خاصة بالتأثر الانفعال وقوة الاستجابة الانفعالية وتقلب المزاج "لعلكم تلاحظون معي هذا أن ثورة جمهور النائب/ عماد الجلدة قد بدأت اثناء تلاوة النطق بالحكم ولم تبدأ بعد انتهاء النطق به" من ذلك يتضح لنا اننا ازاء جمهور من محبي الهوس والعدوان جمهور يعتقد بحقه الدائم في الرفض دائمًا ليفرض منطقه وأحكامه ورؤاه علي الآخرين جمهور يرفض المعارضة ولا يتحمل أي انتقاد أو خلاف جمهور إذا زادت اثارته إلي حد معين فان حلول القسوة والعنف والبلطجة ستكون هي الاداة الوحيدة لحسم الأمر، ولا مانع طبعًا اثناء اللجوء في تلك الحلول من استحضار واجترار القاموس الجاهز دومًا والمملوء بكل أساليب العنف ووسائل ومفردات الألفاظ النابية ووسائل التحرش والهياج والانفعال غير المحدود إلي الدرجة التي تدفعهم وبرغبة عارمة للتدمير والتخريب والصياح بصوت هستيري في مثل تلك الظروف المباغتة. ونظرًا لأنني اصنف نفسي من بين البشر الذي يلجأون دائمًا للاستفادة من اخطائهم ولرغبتي الأكيدة في عدم تكرار حادث المحكمة المؤسف فانني اسمح لنفسي بطرح بعض الحلول الاجرائية التي اتصور انها قد تكون مانعة لتكرار حدوث ثورة جمهور محاكمة النائب/ عماد الجلدة وأمثاله في هذا الصدد فانني اقترح: أولاً: أن يعاد النظر في مسألة حضور جمهور أو مشجعي ومريدي المتقاضين ودخولهم أصلاً إلي قاعات المحاكمة . ثانيًا: أن يتم التفكير في مسألة تغليظ العقوبة علي كل من تسول له نفسه المساس باحترام هيئة وهيبة المحكمة واجراءات المحاكمات أو لمجرد التفكير في الاتيان بكل ما من شأنه التأثير بالسلب علي مجريات الأمور داخل المحاكم. ثالثًا: أن يتم تنظيم اجراءات المحاكمة فلقد رأينا في النقل التليفزيوني لبعضها حالات الفوضي العارمة التي تميز الجلسات والتي يصاحبها انكباب المحامين واندفاعهم بشكل لا يليق للوقوف أمام المنصة. رابعًا: أن يزداد الاهتمام بمسألة تأمين قاعات المحاكم عددًا وعتادًا .