أربع حكومات توارت من الساحة السياسية التركية علي أيدي العسكر خلال زهاء خمسة عقود مضت ، كان القاسم المشترك الأعظم بين تلك الحكومات والأحزاب التي تمثلها أمران ،أولهما ، أنها جميعا كانت ذات توجهات أو جذور إسلامية،سواء أعلن بعضها ذلك صراحة أولم يعلن بعضها الآخر،وثانيهما ، أن تلك الحكومات كانت لا تتدخر وسعا في العمل من أجل تحقيق إنجازات ملموسة علي الصعيدين الداخلي والخارجي،ربما فاقت في نوعيتها وتأثيرها علي مسار التجربة التركية الحديثة، ما فعلته الحكومات العلمانية وشبه العسكرية التي أعقبت حكم الزعيم الروحي ومؤسس الجمهورية العلمانية الحديثة مطصطفي كمال أتاتورك. بيد أن الإنجازات التي حققتها الحكومات والأحزاب الإسلامية التركية لم تكن تلقي ردود الفعل ذاتها من قبل الأتراك ، فبينما قوبلت بترحاب شديد علي المستوي الشعبي بشكل أفضي إلي إكتساح الأحزاب الإسلامية للإنتخابات العامة والبلدية غير مرة، كان للمؤسسة العسكرية التركية وحلفائها من غلاة العلمانيين والقوميين المتطرفين رأي آخر تم التعبير عنه عمليا من خلال القيام بإنقلابات عسكرية أطاحت بالأحزاب والحكومات الإسلامية الواحدة تلو الأخري بغرض الحيلولة دون تنامي شعبية تلك الأحزاب علي النحو الذي يفضي إلي ترسيخ دعائمها داخل مؤسسات الدولة التركية علي حساب العسكر ومن ثم أسلمة الجمهورية العلمانية و تقويض مبادئها الأتاتوركية.ففي العام 1960 تمت الإطاحة بحكومة عدنان مندريس الإسلامية بعد نجاحها في إفادة تركيا من مشروع مارشال الأمريكي لمعالجة آثار الحرب العالمية الثانية،و تمكنها من ضم تركيا إلي حلف شمال الأطلسي عام 1952 ،ثم بحكومة نجم الدين أربكان عام 1997 بعد أن نجعت في إعادة الدفء إلي علاقات تركيا بمحيطها العربي وعمقها الإسلامي،وها هي اليوم تحاول الإطاحة بحكومة حزب العدالة والتنمية بعد أن خرجت بتركيا من مستنقع الضيق الإقتصادي الفج وإنتزعت موافقة الإتحاد الأوربي علي بدء مفاوضات إنضمام أنقرة إليه . واليوم،وعلي غير المعتاد ،لم يفاجئنا الجيش التركي بالشروع في إنقلابه الخامس بغية الإطاحة بآمال حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية والحيلولة دون إقتناصه لمنصب الرئيس الحادي عشر للجمهورية العلمانية الحديثة،وإنما إكتفي فقط بالتهديد والوعيد والتحذير ،فثمة معطيات جديدة دلفت إلي العملية السياسية في تركيا أسفرت عن تردد المؤسسة العسكرية وتخاذلها علي هذا النحو غير المسبوق،والذي يكاد ينبيء أو ينذر بأفول هيمنة العسكر علي الحياة السياسية في تركيا وإنزوائهم داخل ثكناتهم العسكرية إلي الأبد ،كإرهاصة لبزوع ما يمكن أن نعتبره الجمهورية الثانية في تركيا . وقد تصدرت المتغيرات الخارجية تلك المعطيات ،حيث سقطت عن الجيش التركي أوراق التوت الخارجية،المتمثلة في الدعم الغربي، الذي كان يستر بها تدخله السافر في سياسة بلاده بذريعة حماية الجمهورية العلمانية والمباديء الأتاتوركية ،حتي بدت المؤسسة العسكرية التركية وكأنها قد استنفدت واجباتها حيال الغرب ،بل وإنزلقت نحو الإصطدام به علي نحو ما بدا خلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 ،ثم إصرارها علي توجيه ضربات عسكرية لحزب العمال الكردستاني والتوغل في شمال العراق ،وإتهامها واشنطن بتجاهل مصالح أنقرة الإقليمية وإزدرائها للتحالف الإستراتيجي مع الأتراك ،خاصة بعدما اكتسي طابعا ظرفيا تعتصر خلاله واشنطن حليفها التركي الذي لا يناله منها إلا النذر اليسير،هذا إلي جانب رفضها لمعظم الشروط الأوربية اللازمة لضم تركيا إلي الإتحاد الأوربي ،والتي يري قادتها فيها تقليصا لنفوذ الجيش وتدخلا في الشؤون الداخلية للبلاد. في هذا السياق،جاء الرفض الأمريكي والأوربي القاطع لتهديدات رئيس الأركان التركي ،حيث لم تتورع كل من واشنطن وبروكسيل عن تأييدهما لتسوية الأزمة السياسية الراهنة في تركيا عبر الوسائل السياسية الديمقراطية بعيدا عن أي تدخل من جانب العسكر،وذلك علي خلاف ردود الفعل الأمريكية علي إنقلابات الجيش التركي السابقة ،التي طالما عبرت البيانات الرسمية الأمريكية عن ثقة واشنطن في حكمة ونزاهة القائمين بها. وظني أن مثل هذا التحول في الموقف الغربي حيال تدخلات الجيش التركي قد جاء نتيجة لتطور الأحداث وإختلاف الظروف عما كان سائدا إبان الإنقلابات العسكرية الأربع الماضية،بشكل أفضي إلي تغير نظرة الغرب لتركيا . فأوروبا، التي إلتأمت في منظومة واحدة تتوق تركيا إلي الإلتحاق بها ،تريد تركيا أقرب ما تكون إلي أسس وقيم تلك المنظومة،بحيث تغدو أكثر استعدادا للتعايش مع القيم الغربية ،بما فيها الديمقراطية والدولة المدنية التعددية، وأقوي اقتصاديا من خلال الإنفتاح علي الغرب وجاراة العولمة،وهو ما لا يتأتي في ظل هيمنة الجيش علي السياسة . بعبارة أخري ،إن الأوربيين بحاجة إلي شريك تركي بمقدوره تحقيق تلك الشروط لا تمثله أو تتحكم في تحركاته المؤسسة العسكرية ،ولما كانت الساحة السياسية التركية تخلو حاليا من قوة سياسية تتوفر فيها تلك الصفات إلا الإسلاميين المعتدلين بقيادة حزب العدالة والتنمية،فقد هرع الأوربيون نحو مباركة الإصلاحات التي تبنتها حكومة العدالة والتنمية والتي كان من بينها تقليم الأظافر السياسية للعسكر . أما الولاياتالمتحدة،فقد تراءي لها أن الرهان علي حكومة تركية خاضعة لسيطرة العسكر لم تعد هي الخيار الأمثل لها في المرحلة المقبلة ،خاصة وأن العسكر لن يقبلوا بوجود حكومة إسلامية التوجه ،وإن استساغها الأمريكيون . ولما كانت واشنطن حريصة علي إبراز النموذج التركي للإسلام المعتدل ،الذي تريد ترويجه عربيا وإسلاميا ،كبديل للإسلام الوهابي المتشدد ،الذي تسعي لتقويضه ،فقد تهادي الدعم الأمريكي لحكومة العدالة والتنتمية ،التي لم تدخر وسعا هي الأخري في إبداء مرونة كبيرة حيال عدد من الأمورالخلافية العالقة مع الأمريكيين والتي حال تعنت الجيش التركي من قبل دون تسويتها كالمسألة الكردية ،التي تجاوب أردوغان مع المطالب الأمريكية الداعية للتعاطي معها من خلال الحوار . ولعل أبرز ما يسترعي الإنتباه في الأزمة السياسية التركية الراهنة، هو أنه بالرغم من الضربات الموجعة والصفعات المؤلمة التي يتلقاها حزب العدالة إلا أنه لا يزال صامدا ومتماسكا يصر قادته علي عدم التراجع ومواصلة المسيرة ،كما يتفننون في طرح المبادرات وتقديم البدائل للخروج بالبلاد من الأزمة الراهنة بأقل خسائر ممكنة لها وللحزب في آن ،ففي الوقت الذي أكدت عزمها علي إعادة تدشين الإنتخابات الرئاسية مجددا ،وافقت حكومة العدالة والتنمية علي إجراء إنتخابات عامة مبكرة ،وقدمت بالتزامن مع ذلك للبرلمان تعديلات دستورية تدعو لانتخاب رئيس الجمهورية بالتصويت الشعبي المباشر، بدلا من البرلمان الذي يخضع التصويت فيه لاعتبارات التوازن السياسي وعدد المقاعد التي يمتلكها كل حزب، علي أن تكون مدة الولاية خمس سنوات فقط ، قابلة للتجديد لفترة واحدة فقط ، وأن تخفض مدة ولاية البرلمان من خمس سنوات إلي أربع فقط .غير أن حزب العدالة يحتاج إلي موافقة ثلثي أعضاء البرلمان، بواقع 367 عضوا،لإقرار مثل هذه التعديلات ،ولما كان لا يملك سوي 352 عضوا في البرلمان،يظل الحزب بحاجة إلي الحصول علي دعم بعض أحزاب المعارضة البرلمانية، التي أيدت مقترحات حزب العدالة ، كحزب الوطن الأم . وأيا ما كانت النتائج التي سوف تتمخض عنها التطورات المتسارعة في الأزمة السياسية التركية الراهنة ،فإن القراءة الموضوعية للمشهد السياسي الراهن في تركيا ،تكاد توحي بأن كرة الجليد قد تحركت بإتجاه التغيير حتي أضحي الأتراك بصدد تدشين أسس جمهوريتهم الثانية ،التي يتم خلالها تصحيح مسار العلمانية التركية ،بحيث ينتهي الدور السياسي للعسكر،تتخلي العلمانية الأتاتوركية عن الإفراط في التطرف والغلو كيما تغدو أكثر تقبلا للإختلاف والتعددية وأشد قربا من الديمقراطية والدولة المدنية. وعندئذ يكون الأتراك قد أصابوا تطورا سياسيا تاريخيا ربما لا يقل في دويه وتأثيراته بعيدة المدي عن ذلك الذي دشنه أتاتورك قبل ما يربو علي ثمانية عقود.