أصبح من يطالب بإعادة النظر في المادة الثانية من الدستور التي تنص علي أن مبادئ الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع كمن يسبح ضد التيار، أو من يقدم علي مغامرة غير مضمونة العواقب. وأسباب هذا المأزق متعددة من بينها أن هذه المادة تكاد أن تكون القاسم المشترك الوحيد بين الحزب الوطني الحاكم وبين جماعة الاخوان المسلمين التي تطلق عليها الحكومة لقب الجماعة المحظورة رغم ذلك الاتفاق اللافت للنظر والمثير للدهشة حول تبني هذه المادة خاصة وأن هذه المادة تعطي المسوغ "الدستوري" ل "وجود" الجماعة "المحظورة"! وبالتالي فإن من يطالب باعادة النظر في المادة الثانية إنما يضع نفسه في مواجهة الحكومة والجماعة معًا. وبين مطرقة حزب الحكومة وسندان الجماعة المحظورة يكاد العلمانيون - ليبراليون ويساريون - أن يكونوا في مهمة مستحيلة خاصة وأن قضية اعادة الثانية في حد ذاتها توفر لخصومهم أرضية خصبة للعب علي عواطف الناس البسطاء ودغدغة مشاعرهم الدينية، وتصوير كل من تسول له نفسه الاقتراب من المادة الثانية كما لو كان كافرًا أو زنديقًا والعياذ بالله. حتي الدكتور عصام العريان أحد القيادات الأكثر اعتدالاً ومرونة لجماعة الاخوان قال بحدة غير معهودة فيه "إن أي حديث عن تعارض الشريعة الاسلامية مع حقوق المواطنة افتراءات وأكاذيب". هذا الخطاب الخشن الغريب علي دماثة الدكتور عصام العريان يغلق أبواب الحوار الهادئ بوصفه الآراء المخالفة له بانها "افتراءات" و"أكاذيب". وأنا شخصيًا أحد اولئك الذين يرون أن المادة الثانية تنطوي علي مشاكل فيما يخص مبدأ المواطنة، ولا أري في ذلك الزعم "افتراء" أو "كذبًا" علي أحد. وطالما اننا نتحدث عن الدستور فاننا نسعي في حقيقة الأمر إلي عقد اجتماعي جديد يقوم بالضرورة علي "التوافق" المجتمعي وبدون ذلك التوافق لا نكون بصدد دستور ديمقراطي وإنما بصدد "إملاءات". والعلمانيون - ليبراليون ويساريون - لديهم حجج كثيرة تسوغ المطالبة بفصل الدين عن السياسة دون أن يكون في ذلك انتقاص من شأن الدين أو تطاول عليه. وهذا الفصل يستوجب الكف عن الحديث من دين "رسمي" للدولة فالدول ليس لها دين باعتبارها كيانًا اعتباريًا، والدول لن تبعث يوم القيامة، والاقرار بوجود دين "رسمي" يمكن أن يفسر بأن الأديان الأخري غير رسمية. كما أن هذا الفصل بين الدين والدولة يستلزم أيضًا اعادة النظر في نص المادة الثانية فكما جاء في بيان أخير لمركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان فان "الدستور لم ينص علي وجود مصادر أخري للتشريع سوي مبادئ الشريعة الاسلامية، وهو ما يعد - حسب نص البيان - انتكاسة خطيرة لمبدأ المواطنة والدولة المدنية ويميل بمصر ناحية الدولة الدينية". وتجربة ربع قرن من تعديل المادة الثانية - كما يقول البيان ذاته - "أثبتت انها كانت عاملا أساسيًا في تراجع دور الدولة الحيادي تجاه مواطنيها، كما جري توظيف هذا النص لاشاعة مناخ التطرف وكبت الحريات والحجر علي البحث العلمي والابداع. ومع أن الغاء المادة الثانية هو الحل الأمثل من وجهة نظر كاتب هذه السطور - فان ضرورات "التوافق" - التي هي الأساس كما قلنا في صياغة دستور يحظي بتراضي مختلف طبقات وفئات المجتمع - تجعلنا ننادي ب "حل وسط" بحيث لا يموت الذئب ولا تفني الغنم. هذا الحل الوسط ينادي بالابقاء علي المادة الأولي والمادة ا لثانية لكن مع نقلهما من صلب الدستور إلي ديباجته، مع تعديلهما بحيث يتم استبدال مسألة دين الدولة الرسمي بصيغة تقر واقع الحال وهو أن مصر دولة أغلبية سكانها من المسلمين، ويتم تعديل الصيغة التي تنص علي أن مبادئ الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع بصيغة أخري تقول ان مقاصد الشريعة الاسلامية والشرائع السماوية الأخري ومواثيق وعهود حقوق الانسان هي المصدر الرئيسي للتشريع. بهذا التعديل نبقي علي "الشريعة الاسلامية" لارضاء الاخوان والحكومة، ونهدئ مخاوف غير المسلمين باضافة الشرائع السماوية الأخري ومواثيق حقوق الانسان. وليس هذا مجرد حل توفيقي بل انه من الناحية الموضوعية حل يؤدي إلي رفع التناقض بين مواد الدستور وبعضها البعض في ظل الوضع الراهن. هذا أحد الاجتهادات لكيفية التعامل مع هذه القضية الشائكة، وليس من الإنصاف قطع الطريق علي كل من لديه اجتهاد بمنهج الدكتور عصام العريان الذي يذهب إلي انه "كان أحري بهذا الجمع - المطالب بتعديل المادة الثانية - أن يتصدوا للفساد والاستبداد والتسلط والقمع الذي يمارسه النظام من إهدار لحقوق الأغلبية والأقلية بدلا من التصدي للشريعة". والاحجاف في هذا الرأي أن التصدي ليس للشريعة - كما قلنا - وإنما هو للخلط بين ما هو مطلق وما هو نسبي بين ما هو ديني وما هو دنيوي. وأن الاهتمام بهذه القضية لا يعني تأييد "الفساد والاستبداد والتسلط والقمع الذي يمارسه النظام" وإنما هو بالأحري يعني النضال ضد نوعين من الاستبداد، الاستبداد السياسي، والاستبداد الديني اللذين يلتقيان معًا في نهاية المطاف. وكما نري فانه ليس من باب الصدفة أن يتفق الخصمان اللدودان الحزب الوطني والجماعة الاخوانية علي تقديس المادة الثانية!