اكتملت صورة التوازن السلبي في تعطيل المؤسسات الدستورية. ليس لأحد بعد الآن أن يراهن علي أي ورقة يعتبرها نقطة ارتكاز قوية لمصلحته من داخل النظام السياسي الحالي. إذا كانت الحكومة العرجاء قابلة للحياة بنظر أنصارها، فالرئاسة الأولي المشلولة أيضاً قابلة للبقاء في الكرسي، طالما ليس هناك من يستطيع أن يحركها، أو يزيحها من مكانها. المواقع الرئاسية محجوزة سلفاً حتي تأتي التسوية لملء الفراغ. أي كلام آخر يمنّي النفس بحلول "قانونية ودستورية" هو وهم كبير. ما هو ممكن الآن تبديل الأشخاص للحفاظ علي مراكز السلطة، أما تعطيل التسوية فسيقود إلي مكان آخر، بدأت طلائعه تظهر تحت غلالة رقيقة من الخطب، "إما الشراكة وإما تغيير قواعد اللعبة كلها". طبعاً ليس مقنعاً حديث رئيس الجمهورية بأنه "لن يسلم السلطة لحكومة غير شرعية". فهو لم يعد يملك وسائل دستورية لذلك. وليس مقنعاً أيضاً أن تطمح الحكومة لإشغال موقع الرئاسة الأولي "وكالة" لأنها ستفتقد مع شغور موقع الرئاسة الأولي ركناً إضافياً من مكونات السلطة التنفيذية في البلاد، بالمعني القانوني الصرف، وبالمعني السياسي الوطني الميثاقي. ما هو مؤكد وثابت أن نظامنا السياسي لا يعمل إلا وفق المحاصصة الطائفية والتراضي. ولن تعطيه أية قوة دفع خارجية، من مراجع إقليمية أو دولية، ولا من الأممالمتحدة نفسها أي شرعية لسلوك آخر. لقد دخلنا في شبكة أو شباك سلطات الأمر الواقع. عبثاً يحاول البعض، من كلا الفريقين، أن يسجل النقاط علي دفاتر ليست ممهورة بالوفاق. فإذا كانت سلطة الدولة هي من يجب أن "تحتكر العنف" وتضفي عليه الشرعية بالولاء فليس له من أداة أصلاً في لبنان إلا بالتفاهم السياسي. وإذا كنا لا نريد التذكير بتجارب الماضي فلا أقل من لفت الانتباه إلي أحداث الأيام القليلة الماضية. في الأزمات الوطنية الكبري، "الدولة الشرعية أضعف الفرقاء علي أرضنا" كما كان يردد الشيخ بيار الجميل في السبعينيات... كل هذا يكفي لكي تدرك القوي السياسية المتنازعة أن أهم وظائفها وأدوارها، من أجل الاحتفاظ بمواقعها، البحث عن التسوية السياسية وابتكارها. ومن غير المجدي إيهام اللبنانيين أن الصراع هو صراع إقليمي والتسوية إقليمية تهرباً من المسئولية الفعلية لهذه القوي. تاريخياً كل التسويات قامت بين اللبنانيين وأنتجتها القوي اللبنانية وتولت الجهات الإقليمية رعايتها وقدمت الضمانات لها. وكل التسويات هدفت إلي بناء توازن سلطوي يرضي مصالح ونفوذ أطرافها. ولا يستطيع أحد أن يحمّل اللبنانيين جميلاً عن ذلك. لقد أعطي لبنان للطوائف والجماعات السياسية أدوارها وليس العكس، وهي ما زالت عاجزة أن تعطي لبنان حصانته النهائية من أجل الاستقرار والتقدم والازدهار ألا وهو مشروع الدولة. فلا "المحاربون" ولا "الاقتصاديون" ولا كل الطيف السياسي الأوسع استطاع أن يجمع الناس علي "اللبنان" المستقل عن الأهواء والمصالح المغلفة بخطاب "وطني" ينقصه دائماً أن يري اللبنانيين بتعددهم وتنوعهم ونوازعهم المختلفة. كل ما أورثتنا إياه هذه الطبقة السياسية المتجددة أفكاراً تلائم الظروف للإمساك بالسلطة. من صالح القوي الإقليمية أن تقوّي نفوذها في لبنان، لكن الحقيقة أن هذه القوي ليست هي من يدفع الأزمة نحو صدام أهلي يرتد سلباً علي أمنها، وعلي اللبنانيين أن ينتجوا وفاقهم فلا "يرقصون بأكثر مما ينفخ الزمّار" الإقليمي. ليس هذا وعظاً أخلاقياً بل هو اتهام سياسي يرد المشكلة إلي أصولها ومسئوليات الفرقاء فيها.