لعل هناك ما هو أغبي من إدمان المرء لاستهلاك النفط، ألا وهو إدمان بيعه وتسويقه. ذلك أن في هذا النوع الأخير من الإدمان بصفة خاصة، ما يضفي علي الدولة سحنة خاصة. أما إذا حدث انخفاض مفاجئ لأسعار النفط العالمي، فإن في ذلك ما يهدد بتحول شعب الدولة المدمنة للبيع، إلي شعب ثوري. وتلك عينها هي قصة صعود وانهيار الاتحاد السوفيتي السابق الذي أتخم بالنفط، وكان ممكناً له أن ينتهي إلي قصة إيرانية حقيقية، فيما لو تمتعنا نحن بما يكفي من الفطنة والذكاء. وإنه ليصعب جداً علي المرء أن يأتي زائراً للعاصمة الروسية موسكو، دون أن يلحظ ما فعلته السنوات الخمس الأخيرة من ارتفاع أسعار النفط، بشرائح الطبقات المتوسطة من مستهلكي النفط. فقبل خمس سنوات مضت، استغرقت مني رحلة الوصول من مبني الكرملين إلي مطار موسكو الدولي، 35 دقيقة فحسب. أما في زيارتي الأخيرة لموسكو، يوم الاثنين الماضي، فقد استغرقت مني الرحلة نفسها ساعتين ونصف الساعة! والسبب هو أن هذه المدينة التي صممت لكي تسع 3 آلاف سيارة، وكانت بها حوالي 300 ألف سيارة قبل عشر سنوات مضت، أضحت تجوب شوارعها اليوم 3 ملايين سيارة، بينما انتشرت حولها ضواحٍ جديدة لم يكن لها وجود من قبل. والسؤال الذي يحيرني الآن هو: كيف لروسيا أن تتعامل مع ارتفاع عائدات منتجاتها من النفط والغاز الطبيعي؟ لاشك أنه سؤال كبير ومعقد بالطبع. ولكن الأهم من هذا السؤال هو الإقرار بحقيقة أن إدمان الاتحاد السوفيتي السابق للنفط، كان سهماً من السهام المسمومة القاتلة التي أدت إلي مصرعه دون ريب. وهذا المصير الذي لقيه الاتحاد السوفيتي، هو ما يلهمنا اليوم كيفية التصدي لطهران. فإدمانها للنفط هو بذرة الموت التي تحملها في أحشائها. ورغم انكباب العلماء والباحثين الاقتصاديين علي دراسة هذه الظاهرة منذ وقت، فإن نظري قد التفت إليها بصفة خاصة، أثناء مسامرتي هنا في موسكو، ل"فلاديمير ماو"، رئيس "الأكاديمية الروسية للاقتصاد القومي". وكنت قد قلت لمحدثي، إن الاتحاد السوفيتي قد انهار نتيجة لانخفاض أسعار النفط الخام إلي 10 دولارات للبرميل، بعد مدة وجيزة من صعود ميخائيل جورباتشوف إلي سدة الحكم، وليس نتيجة للجهود التي بذلها الرئيس رونالد ريجان. غير أن محدثي "ماو" قال لي العكس تماماً: إن موت الاتحاد السوفيتي نجم عن الارتفاع الذي حدث في أسعار النفط! ومضي مستطرداً: لقد أغري الارتفاع الحاد الذي شهدته أسعار النفط في السبعينيات، قادة الكرملين بزيادة حجم الدعم الحكومي للمواطنين، في حين انفتحت شهيتهم لغزو والتهام الجارة أفغانستان. ولذلك فالذي تمخض عن انخفاض أسعار النفط في عقد الثمانينيات، هو اضمحلال وتفكك الإمبراطورية المترهلة. ها هنا نستطيع استخلاص القصة الحقيقية إذن، كما رواها لنا "ماو": فقد صمد الاقتصاد السوفيتي المعطوب، خلال العقود والفترات الأولي من تاريخه، بفضل انخفاض التكلفة الزراعية، وبإرغام الفلاحين علي العمل في المزارع الحكومية العامة، وكذلك باستغلال انخفاض تكلفة عمالة السجون الشاقة التي كانت تستخدم في تشييد المرافق الصناعية بصفة خاصة. لكن ما إن حل عقد الستينيات، حتي أصبحت وسائل الإنتاج الزهيدة هذه غير متوفرة بما يكفي لسد حاجة النمو الاقتصادي، فاضطر الكرملين إلي استيراد القمح بدلاً من تصديره وإنتاجه محلياً. ثم تطورت الأحداث في عام 1973، إثر إعلان مقاطعة النفط العربية، وما تلاها من ارتفاع حاد في أسعار النفط العالمي، مع ملاحظة أن الاتحاد السوفيتي كان حينها، الدولة الثانية عالمياً، بعد المملكة العربية السعودية، من حيث إنتاج وتصدير النفط. وبذلك فقد تمدد عمر الاتحاد السوفيتي 15 عاماً أخري. وقد وفرت تلك العائدات النفطية الهائلة، لحكومة الرئيس الأسبق بريجنيف، فائضاً مالياً يكفي لشراء دعم شتي الفئات ذات المصلحة، وكذلك لشراء دعم الفلاحين، ولاستيراد بعض السلع الحيوية، فضلاً عن إنشاء المجمعات الصناعية العسكرية العملاقة. كيف لا وقد قفز حجم مساهمة العائدات النفطية من إجمالي الصادرات السوفيتية، إلي نسبة 40 في المئة، بدلاً من تراوحه بين نسبة 10 و15 في المئة فحسب، طوال السنوات السابقة لعام 1973؟ ومع بدء تراجع أسعار النفط العالمي بحلول عقد الثمانينيات، وما إن حاول الرئيس جورباتشوف، إصلاح النظام الشيوعي، وتجنيبه خطر الانهيار الوشيك، حتي كان كل شيء قد انتهي بالفعل. ثم يمضي "ماو"، لمقارنة هذه القصة بما حدث في إيران. لقد وظف الشاه، معظم عائدات النفط الإيراني فيما بعد عام 1973، للدفع بعجلة الحداثة والتنمية داخل بلاده. ولكن سرعان ما حلت بنظامه صفعة الثورة الإسلامية عام 1979 وقد استخدم قادة النظام الجديد، العائدات نفسها لتوطيد أركان حكمهم.