بحلول اليوم الأول من العام الجديد، وعلي إثر انضمام كل من رومانيا وبلغاريا لعضوية الاتحاد الأوروبي، يكون علي الأرجح- قد أغلق باب توسيع الاتحاد إلي أمد طويل، إن لم يكن مرة واحدة وإلي الأبد. وقد ساد الاعتقاد طويلاً في أوساط ودوائر دول الاتحاد الأوروبي، بأن توسعة الاتحاد، إنما تعني التقدم، وأنها لا تنفصل عنه بأي حال من الأحوال. ولهذا السبب عينه، فقد جاء رفض الناخبين الفرنسيين والهولنديين لمسودة الدستور الأوروبي الجديد، بمثابة صدمة كبيرة للمسئولين الأوروبيين في بروكسل. بيد أن الحقيقة هي علي خلاف ذلك الاعتقاد السائد تماماً. ومن هنا تنشأ الأهمية الفائقة لإعادة تعريف مفهوم "التقدم الأوروبي" من خلال التصدي لخيار ما يجب أن يصيره الاتحاد أصلاً. وبهذه المناسبة يذكر أن خوسيه مانويل باروسو الرئيس الحالي لمفوضية الاتحاد كان قد واصل القول خلال القمة الأوروبية الأخيرة المنعقدة في بروكسل الشهر الماضي، إن الرسالة الصادرة عن القمة هي: "إن بيتنا الأوروبي يظل مفتوحاً". وعلي رغم صحة هذا الاعتقاد نظرياً، ومن حيث المبدأ، إلا أنه ليس كذلك في الواقع الراهن. ويعد هذا الغموض والالتباس جزءاً لا يتجزأ من الجهود التي يبذلها الأعضاء الحاليون وكذلك المفوضية الأوروبية، في إطار تصديهم لوضع جري فيه تمديد حق العضوية لعدد من الدول، لا يزال الشك يساور اكتمال عضويتها الفعلية في الاتحاد. فالملاحظ أن مجلس الاتحاد وكذلك مفوضيته، لا يرغبان في رفض عضوية هذه الدول المرشحة، ما يمكن أن ينعكس سلباً علي الاتحاد من الناحية السياسية، إلي جانب عرقلته لجهود الإصلاح. لكن في الجانب الآخر، لا يبدي الاتحاد موافقته علي انضمام الدول المعنية نفسها لعضويته. وهنا يكمن اللبس والارتباك. ومن بين هذه الدول يظل مصير تطلعات تركيا للانضمام، محل شك كبير. والسبب المعلن هو إخفاق تركيا في تطبيق المعايير المطلوبة لنيل عضوية الاتحاد. أما السبب الرئيسي غير المُعلن- فهو المعضلة الكبيرة التي يواجهها الأعضاء الحاليون، في تخطي الشكوك والقلق السياسي الذي ساورهم بشأن انضمام دولة ذات أغلبية سكانية مسلمة هائلة، قوامها 87 مليون نسمة، وهو رقم ضخم ديموغرافياً مقارنة بدولة أوروبية كبري مثل ألمانيا، التي لا يزيد تعدادها السكاني علي 83 مليون نسمة فحسب. وتظل هذه الشكوك قائمة تراوح مكانها، علي رغم ارتباط تركيا التاريخي بالقارة الأوروبية، وتحالفها الاستراتيجي معها. والحقيقة أن القرار الذي سيتم اتخاذه بشأن انضمام تركيا للاتحاد، هو الذي يرجح له أن يقرر الطابع السياسي للاتحاد الأوروبي فيما بعد. وحتي هذه اللحظة، فإنه لا يزال علي الاتحاد مواجهة أحد الخيارين: إما أن يتحول إلي كيان فاعل وله حضوره المؤثر علي الساحة والشئون الدولية، أو أن يواصل كونه مجرد تجمع للتعاون التجاري الاقتصادي والمالي، تملي عليه القوي العالمية الأخري شروطها وقراراتها. وضمن ذلك يطرح سؤال التحدي أمام الاتحاد عما إذا كان سينحو نحو فرض سياساته الخاصة به أم لا؟ وقد تم التعبير عن هذا المنحي في القرار الرامي أصلاً إلي إنشاء "الوحدة الأوروبية" وفيما يرتبط بهذا القرار فيما يبدو، من إنشاء آلية معنية برسم سياسات خارجية وأمنية أوروبية مشتركة، تعمل تحت سلطة وتخويل مجلس الاتحاد. إلا أن الواقع الراهن يشير لاهتمام هذه السياسات بما هو ثانوي ومثير للجدل والخلاف لا أكثر. كما تصعب حتي الآن رؤية أي طريقة مغايرة لكيفية عمل الاتحاد، في ظل التوسعة الكبيرة التي حدثت فيه مؤخراً، وبلوغ عضويته 27 دولة. غير أن هناك معضلة أكبر وأهم لم يلتفت إليها الكثيرون بعد. والمعني بها أن الاتحاد أصبح من الناحية العملية، أكبر وأهم منبر للإجماع الدولي، عرفته مجتمعاتنا الحديثة المعاصرة علي الإطلاق. وفوق ذلك يتسم الاتحاد الأوروبي بتفرد تاريخي وببعده عن أي طابع أو قيادة إمبريالية، علي رغم اعتماد وحدته علي الوشائج التاريخية والثقافية العميقة بين شعوب دوله، وكذلك علي قوة المصالح الاقتصادية المشتركة لأعضائه، الناشئة في الأساس من النجاح الكبير الذي أحرزه باتجاه التحول إلي اقتصاد صناعي دولي حديث عملاق، يتمتع بعملته الخاصة، وبسوقه الأوروبية المشتركة. وبطبيعة الحال، أن تعطي كل هذه الإنجازات العملاقة مجتمعة، الاتحاد حقوقاً آلية للدفاع عن مصالحه المشتركة وبذل كل ما يستطيعه من جهد في سبيل تحفيزها وتطويرها. وتتمثل هذه الحقوق، في حق الدفاع عن عملته ومصالحه التجارية، وكذلك حقه في الحصول علي الموارد اللازمة، وفي الوصول إلي الأسواق العالمية تصديراً واستيراداً، فضلاً عن حماية حقوق الملكية الفكرية الخاصة به، وكذلك حماية وحفز وتطوير ابتكاراته التكنولوجية. ويمكن القول إجمالاً إن هذه الحقوق، تتلخص في كونها ذات طابع تجاري اقتصادي في نهاية المطاف. وبالضرورة أن تتحول هذه المصالح الاقتصادية، إلي مصالح سياسية مباشرة، ما أن يتم انتهاكها أو التعدي عليها. غير أن الدولة- الأمة التقليدية المتعارف عليها، عادة ما تضفي علي المطالب ذات الطابع الأخلاقي، صفة أيديولوجية جيوبوليتيكية في ذات الوقت. وطالما أن كل هذا كامن ومتضمن في صلب بنود الاتحاد منذ نشأته، فهل وارد أن يظل الحال علي ما كان عليه في المستقبل، إثر توسعته وبلوغ عضويته 27 دولة في مطلع العام الحالي؟ والشاهد عموماً أن الدول الأعضاء الحالية للاتحاد بعد التوسعة- تجمع بينها قيم مشتركة، إلا أنها لا تزال تفتقر إلي أرضية واحدة مشتركة، فيما يتعلق بفهمها للمصالح الدولية، أو في رؤيتها لما يجب أن تكون عليه الأهداف الأوروبية، في علاقتها بالنظام العالمي. ولما كان الاتحاد قد دأب علي امتداد الحقب والسنين، علي إظهار نوع من القبول المستمر للقيادة الأمريكية للعالم، فإنه يصعب جداً الآن رؤية أي تغيير في هذا الاتجاه، ما لم ينشأ تعارض حاد بين الساحل الأوروبي من المحيط الأطلسي، والجانب الأمريكي منه، حول المصالح الأيديولوجية والأهداف والقيم الأخلاقية. لكن وحتي عام 2001، كان احتمال نشوء تعارض كهذا، بعيداً بُعد الأرض عن السماء. بيد أن مجمل السياسات التي انتهجتها إدارة بوش منذ ذلك التاريخ، من أحادية وإصرار علي استخدام القوة العسكرية وتعزيز الهيمنة الأمريكية الفجة، ورفض لإبداء أية مناهضة أو حتي نقد لسياساتها، قد دفع لأن يصبح نشوء تعارض كهذا أمراً ممكناً، بل وارداً جداً.