ما بين وثيقة روما التي اعلنتها 7 دول قررت اقامة سوق أوروبية مشتركة فيما بينها، واعلان برلين الذي صدر منذ ايام معبرا عن طموحات الاتحاد الاوروبي (27 دولة) مشوار طويل امتلأ بالالغام والعقبات ولكنه حقق هدفا رائعا في تشكيل أوروبا الموحدة. خمسون عاما - مارس سنة 1957 - وقع ممثلون عن 7 دول اوروبية وثيقتهم التاريخية باقامة سوق مشتركة فيما بينها وهي المانياوفرنسا وايطاليا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورج، وفي سنة 1993 تحولت السوق المشتركة الي الاتحاد الاوروبي بعد معاهدة ماستريخت وكانت نقلة نوعية حيث اصبحت دول السوق المشتركة تجمعها اشكال ومفوضيات سياسية وثقافية واجتماعية، واصبح الاتحاد الاوروبي واقعا ملموسا علي الساحة الدولية بعد انضمام 8 دول اخري للاتحاد كان من اهمها بريطانيا التي ظلت فرنسا في عهد ديجول تعترض علي انضمامها علي اساس انها ليست جزءا من القارة، ولم تنضم بريطانيا الي السوق الاوروبية الا في عام 1974 اي بعد وفاة الجنرال الفرنسي شارل ديجول. كانت معاهدة ماستريخت نقلة نوعية مهمة علي طريق الوحدة الاوروبية حيث اصبح لتلك الدول شكل سياسي واقتصادي متحد وانشئ البنك الاوروبي المركزي الذي اشرف بعد ذلك علي توحيد العملة الاوروبية، كما اقيم البرلمان الاوروبي الموحد والمفوضيات السياسية أو بمعني عملي الحكومة الاوروبية الموحدة. وواصل الاتحاد الاوروبي مسيرته الناجحة حيث انضمت اليه سنة 2004 عشر دول من دول وسط وشرق أوروبا من بينها دول البلطيق وبولندا والتشيك والمجر وقبرص وفي اواخر العام الماضي انضمت بلغاريا ورومانيا، كما تقف علي الباب دول مرشحة للانضمام مثل تركيا وصربيا، ووصل عدد الدول التي انضمت الي الاتحاد 27 دولة تنتمي الي جنسيات وعرقيات مختلفة - أكثر من 40 عرقا وجنسية - ويتحدثون بلغات مختلفة - اكثر من 40 لغة- ويبلغ تعدادهم حوالي 240 مليونا يساهمون وينتجون ما يوازي 19% من الانتاج والتجارة العالمية. وجاءت قمة برلين الاحتفالية منذ ايام والبيان الصادر عنها تأكيدا علي المضي قدما علي طريق الوحدة، وتقديم قطب جديد وكبير سياسيا واقتصاديا علي الساحة الدولية. والواقع ان فكرة اوروبا الموحدة ظلت حلما يراود المفكرين والقادة السياسيين والعسكريين كل حسب مفهومه وتصوراته الخاصة، الذي لاشك فيه ان طموحات نابليون وغزواته من موسكووبرلين حتي مدريد كانت تستهدف توحيد اوروبا تحت الزعامة الفرنسية ويجعل من باريس عاصمة أوروبا الموحدة، وهو بالتأكيد نفس الطموح الذي راود ادولف هتلر وهو يجتاح ويحتل اوروبا ليوحدها تحت الزعامة الالمانية وتكون برلين هي العاصمة المحكمة. وبعيدا عن الطموحات العسكرية والقومية التي ارتبطت بالمشروع البونابرتي والمشروع الهتلري كان هناك المشروع الديجولي الذي بدأ بداية مختلفة لتشكيل ما سمي أيامها بالبيت الاوروبي الواحد من جبال البرانس في اسبانيا حتي جبال الاورال في روسيا، وكان ديجول يقدم مشروعه كبديل عن البيت الاطلنطي الطابق العسكري الذي يضم دول الشمال الامريكي - كندا والولايات المتحدة - ودول غرب أوروبا. وقد حاول القادة السوفيت خاصة نيكيتا خروتشوف وآخر قائد سوفيتي ميخائيل جورباتشوف التأكيد علي هذا المعني اكثر من مرة، بل وقدمت اقتراحات محددة من جانب السوفيت بحل حلف وارسو مقابل تجميد حلف الاطلنطي والتركيز علي زيادة التعاون التجاري والثقافي بين دول شرق وغرب اوروبا. ولعلنا - خاصة - في العالم العربي في حاجة لدراسة جادة لتجربة الاتحاد الاوروبي وخاصة بعض القسمات المميزة لتلك التجربة النامية التي تقدم في واقع الامر نقيضا لكثير من التصورات القومية المطروحة في عالمنا العربي المجزء والمفتت. نحن امام 27 بلدا تمثل اكثر من 40 لغة وعرقا تسير بخطي ثابتة ومتصلة ومدروسة في اتجاه تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية، في حين اننا في العالم العربي - 290 مليونا - تجمعنا اللغة والتاريخ والتراث المشترك، لم ننجح علي مدي نصف قرن في انشاء السوق العربية المشتركة او حتي المنطقة الحرة، رغم ان الجامعة العربية وافقت من ناحية المبدأ سنة 1955 اي قبل انشاء السوق الاوروبية المشتركة بعامين، علي مشروع للسوق العربية المشتركة. بل ان دولا متجانسة في اوضاعها الاقتصادية البترولية ونظمها الملكية والاميرية بل حتي في القبائل المكونة لمجتمعاتها مثل الاتحاد الخليجي لم تنجح حتي الان في انشاء السوق المشتركة فيما بينها الامر الذي يؤكد ان العامل الجغرافي والمصلحي يلعب دورا أهم من العوامل التقليدية التي ظللنا نرددها طوال نصف قرن بشعارات فخمة ضخمة عن امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة من المحيط الي الخليج. ولعل الدرس الثاني المستفاد هو ان المانياوفرنسا العدوتان اللدودتان تقليديا في اوروبا وطوال قرنين من الزمان منذ الحرب النابليونية حتي الحربين العالميتين في النصف الاول من القرن العشرين والاحتلال الهتلري لفرنسا، قد تحولتا الي صديقتين بل وحليفتين استراتيجيتين تمثلان القاعدة الاساسية وقوة الدفع الرئيسية للاتحاد الاوروبي. لقد مضي قرابة ال45 عاما علي توقيع معاهدة الصداقة الفرنسية الالمانية - يناير 1963 - ويستعد البلدان للاحتفال بهذه المناسبة في اوائل العام القادم، حيث سيلتقي مجلس الوزراء في الدولتين في اجتماع مشترك في قصر الفرساي في نفس المكان الذي هتف فيه ديجول - تحيا الوحدة الاوروبية - وذلك بدلا من الشعار التقليدي تحيا فرنسا. ومن كان يتصور ان الندوب والجروح التي خلفتهما حروب طويلة ممتدة بين الجارتين والصراع حول ايهما يمكن ان يسيطر علي اوروبا يتحولان الي حليفتين استراتيجيتين وتمثلان القاطرة الرئيسية التي تشد الاتحاد الاوروبي كله علي طريق المزيد من الوحدة والاندماج رغم ان عاصمة الاتحاد الجديدة هي بروكسل وليست باريس مثلما كان يطمح نابليون، او برلين مثلما كان يستهدف ادولف هتلر والثابت ان هناك مصالح مشتركة تعرض نفسها علي طريق الوحدة والاتحاد وليس مجرد الحديث عن القومية الواحدة المشتركة في اللغة والدين والتراث. ولعل المفتاح الحقيقي لتجربة الوحدة الاوروبية هو الاسلوب الديمقراطي الذي كان مرتبطا بكل خطوة وكل نقلة نوعية في مسيرة اوروبا نحو تحقيق البيت الواحد وهو ما نفتقده تماما في عالمنا العربي المجزأ والمفتت.