أعجبني كثيرا موقف وزير الخارجية أحمد أبو الغيط عندما حسم لأول مرة منذ وقت طويل الموقف من قرية أم الرشراش الواقعة علي قمة خليج العقبة والتي أصبحت الآن معروفة باسم إيلات ضمن نطاق الدولة الإسرائيلية. فخلال الأعوام الماضية انتشر القول أن هذه القرية كانت خاضعة للسيادة المصرية ثم جاءت إسرائيل واستولت عليها خلال الحرب العربية _ الإسرائيلية عام 1948 ومن ثم فإنه علي مصر أن تعمل علي تحرير هذه الأرض المحتلة من خلال الكفاح السياسي والعسكري إذا لزم الأمر. وبالفعل تكونت جماعات سياسية تدافع عن حق مصر في القرية السليبة، بل أن جماعة منها أطلقت علي نفسها اسم جبهة تحرير أم الرشراش تماما كما كان يطلق علي جبهة التحرير الجزائرية وجبهات التحرير الفلسطينية المتعددة. ولمن كانوا واقفين تحت ألوية هذه الجماعات والجبهات كانت القضية وطنية من الطراز الأول وتحتاج إلي رفع راية المقاومة والجهاد والكفاح حتي كمال الجلاء وتمام التحرير. وكان واردا ضمن هذا المنطق نقدا قاسيا لما قيل عن تحرير الأراضي المصرية المحتلة نتيجة اتفاقيات كامب دافيد ومعاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية، فلو كان التحرير كاملا ووصل إلي الحدود المصرية الدولية فعلا لما بقيت القرية المصرية تحت الاحتلال الإسرائيلي, وبشكل أو بآخر كان الطلب المصاحب لكل ما سبق هو استئناف الكفاح من أجل تحرير الأراضي المصرية السليبة. وكان ذلك صيغة أخري لنقد ليس فقط اتفاقيات كامب دافيد وإنما أيضا لتغليب منهج بعينه في السياسة المصرية. والحقيقة أن مثل ذلك لم يكن جديدا أبدا علي الساحة السياسية المصرية، فالتشكيك في معاهدة كامب دافيد كان فرضا دائما علي الخطاب العام، والدعوة إلي استئناف النضال كانت مطروحة في كل الأوقات. وفي واحدة من المراحل كتبت سلسلة من المقالات في صحيفة الأهرام تحت عنوان " نظرية النضال الدائم" التي روجتها جماعات سياسية لم يكن بمقدورها أن تري مصر إلا وهي في حالة من الكفاح والنضال والثورة والفورة. وبالنسبة لهم فإن التعامل مع مصر كواحدة من هذه الدول ذات الأهداف المتواضعة مثل التنمية وتعليم الأبناء وتحقيق الرخاء يقلل من ِشأنها ودورها الإقليمي وحقائق التاريخ والجغرافيا التي منحتها دورا واحدا هو استمرار الكفاح والنضال. وإلي هذه الجماعة كانت تنتمي قوي سياسية تعتقد أن مصر عليها أن تحرر أمرا ما طوال الوقت، فإذا كانت قد حررت أراضيها فلابد أن في الأمر أمراً، وقد كان ذلك الأمر هذه المرة قرية أم الرشراش. وربما كان الوزير أحمد أبو الغيط هو أول من تصدي لهذا الموضوع، عندما قال بجلاء ووضوح أن مصر قد حصلت علي كافة أراضيها المحتلة من إسرائيل، وهي الأراضي المعترف بها دوليا والناجمة عن اتفاقية 1906 بين بريطانيا والدولة العثمانية، ومعاهدة عام 1922 بين مصر وبريطانيا التي حددت استقلال الدولة المصرية ضمن حدود معلومة. وكان في ذلك شجاعة محمودة لم يسبق إليها أي من وزراء الخارجية السابقين الذين فضلوا الصمت وترك الحقائق السياسية غامضة أو معلقة طالما أن ذلك لا يزيد عن كونه نوعا من الضجيج الإعلامي. ولكن المسألة لم تكن أبدا نوعا من الضجة الإعلامية وإنما كانت سباقا علي روح مصر وفلسفتها وعما إذا كانت مصر دولة كتبت عليها حالة من الكفاح المستمر والنضال الدائم أم أنها دولة أن لها الأوان أن تضع استقلالها وحريتها وأراضيها المحررة في خدمة شعبها ورخائه. لقد ثبت من تصريحات الوزير أن قرية أم الرشراش كانت من الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها عام 1948 والتي كانت واقعة ضمن إطار الدولة الفلسطينية طبقا لقرار التقسيم عام 1947 وهو القرار الذي لم تقبله الدول العربية والفلسطينيون بسبب إجحافه وظلمه. وكان من المدهشات في التاريخ أن الدول العربية التي خاضت حرب 1948 خاضتها علي أساس وضع قرار التقسيم موضع التطبيق ولم يكن في نيتها أبدا منع إسرائيل من تثبيت دعائم دولتها، وهو ما كانت تستطيع الحصول عليه بالموافقة علي القرار. ولكنها نظرية الكفاح والنضال هي التي حكمت بضرورة الحرب لتحقيق هدف كان ممكنا تحقيقه بالسلم، بل كان السلم سوف يمنع الفرصة التي أعطيت للقوي الصهيونية لتوسيع الدولة العبرية علي حساب الدولة الفلسطينية. وهكذا فإن قضية أم الرشراش قد ضمت إلي باقي الملف الفلسطيني المعلق منذ سنوات وعقود، وهو الملف الذي لا يزال يدور ضمن نظرية الكفاح الدوار والثورة الدائمة والجهاد المقدس. أما بالنسبة لمصر فإن التجربة كلها مشجعة علي أن وزارة الخارجية لن تكون صامتة علي أطروحات علي الساحة المصرية تظل تتراكم وتكبر كما تكبر كرة الثلج بينما يمكن حسمها بالوثائق والحقائق. وربما تكون الوزارة قادرة علي تقديم ما هو أكثر سواء ما تعلق باتفاقية السلام مع إسرائيل أو بالعلاقات المصرية الأمريكية أو بالعلاقات المصرية العربية. وفي أزمنة قديمة كانت الوزارة حريصة علي طرح " أوراق بيضاء" تضع الأمور الخاصة بالسياسة الخارجية في نصابها بحيث يستقيم الفكر المصري في النهاية إلي حيث يجب أن يستقيم في دولة حريصة علي مستقبل أولادها وقدرتهم علي المنافسة في عالم لا يرحم، وليس في قدرتهم علي الكفاح والنضال والهتاف في معارك وهمية.