عندما كتبنا عن فضيحة منح درجة الدكتوراة ل "رسالة" هدفها الرئيسي تكفير مجلة "روزاليوسف" منذ صدورها حتي اليوم، وتكفير مؤسستها السيدة فاطمة اليوسف، وكل من كتب في أعدادها التي ناهزت الأربعة آلاف عدد، لم يكن هدفنا الشكوي فقط من هذا الافتئات علي البحث العلمي. ولم يكن هدفنا فقط انتقاد كلية أصول الدين التي قبلت أساسا مناقشة هذه "الرسالة" التي تتناقض شكلا وموضوعا من أصول البحث العلمي. ولم يكن هدفنا فحسب تنبيه جامعة الأزهر إلي الخلل الخطير الذي أصابها من جراء "اختطافها" علي حد تعبير الدكتورة سعاد صالح أحد أهم أساتذة الجامعة ذاتها وتحولها إلي منبر يصول ويجول فيه المتطرفون والمتزمتون ودعاة التكفير وأعداء التنوير وحرية الرأي والإبداع. فالشكوي ليست هدفا في حد ذاتها، والنقد ليس من أجل النقد.. ولو كان الأمر كذلك لما كان هناك لزوم للكتابة أصلا. الهدف الأصلي للكتابة عن الموضوع هو دق أجراس الإنذار، وتنبيه المسئولين بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن هذه الكارثة، وحثهم علي اتخاذ إجراءات عاجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، واستخلاص الدروس اللازمة لتلافي تكرار نفس الخطايا.. مرات ومرات. والعجيب أنه بعد أن كتب العديد من الزملاء، الذين ينتمون إلي مدارس فكرية متنوعة ومؤسسات صحفية مختلفة، وأسهبوا في تبيان خطورة وضع الختم الأكاديمي علي هذه الأفكار التكفيرية تحت سمع وبصر المسئولين بكلية أصول الدين وجامعة الأزهر، لم نسمع حتي لحظة كتابة هذه السطور عن تحرك فعلي واحد لإعادة الاعتبار إلي أصول البحث العلمي. وكأن المسئولين بجامعة الأزهر لا يعترفون بأن منح درجة الدكتوراة لمثل هذه الأفكار التكفيرية يمثل خرقًا لرسالة الجامعة، أي جامعة، واهانة للمؤسسة الأكاديمية، وتهديدا للمجتمع بأسره وللحريات العامة والخاصة، وأن التساهل مع "رسالة" بهذا النحو هو بمثابة تشجيع علي المزيد من العدوان علي المثقفين وعلي حرية التعبير وحرية الإبداع وحرية الصحافة، وتشجيع علي المزيد من التطاول علي المنابر الثقافية التنويرية. وهذا الموقف السلبي حتي الآن للمسئولين في جامعة الأزهر يمكن تفهم خطورته إذا وضعنا في الاعتبار أن هناك تيارا متأصلا وعميق الجذور في الأكاديمية الدينية وضع لنفسه منذ عقود "رسالة" الهجوم علي العقل والعقلانية. قد يخفت صوت هذا التيار حينا، لكنه لم يتوقف أبدا. وعلي سبيل المثال نجد أن "جبهة علماء الأزهر" دأبت منذ إنشائها عام 1947 علي مقاومة أي تجديد فكري داخل الأزهر أو خارجه. ولها في هذا المجال "سوابق" معروفة، يمكن أن نشير منها في عجالة إلي معركتها في الأربعينيات ضد الدكتور محمد أحمد خلف الله بسبب رسالته الأكاديمية عن القصص الفني في القرآن، والتي كانت سببا في اتهامه بالكفر والإلحاد والعياذ بالله، ثم طرده من الجامعة! ومنها قضية منصور فهمي الذي قدم رسالة دكتوراة في فرنسا عن المرأة والإسلام، وبرغم أن منصور فهمي لم يكن منتسبا للأزهر فإن ضغط الاتجاهات الأصولية علي الجامعة المصرية جعل هذه الجامعة "المدنية" تطلب من الجامعة الفرنسية سحب الرسالة. وظل الرجل مطرودا ومنبوذا من الجامعة لأكثر من عشر سنوات، ولم تفتح الجامعة المصرية أبوابها له مرة ثانية إلا بعد أن تاب وأناب واستنكر أفكاره! وتحت ضغط الرجعية المصرية تراجعت الجامعة المصرية أيضا عن إنشاء قسم نسائي، كما تراجعت عن السماح ل "جورج زيدان" بتدريس منهج تاريخ "التمدن الإسلامي"، لا لشيء إلا لأنه مسيحي!! هذه الذكريات السلبية لم تكن فقط جزءا من تاريخ مضي وذهب إلي غير رجعة، بل إنها حلقة في سلسلة لم تنقطع يوما ما، وليست رسالة تكفير مجلة "روزاليوسف" إلا غيضًا من فيض، وقد سبقتها رسالة دكتوراة انتهت هي الأخري إلي تكفير العلمانيين المصريين. إذن نحن إزاء جامعة عششت فيها منذ سنين، وعقود، جماعات تفكيرية متطرفة. وطبيعي أن يكون في أي مجتمع مثل هذه الجماعات، والحل معها ليس هو الاستعداء الأمني، وإنما المواجهة الفكرية.. الأمر الذي يستدعي إشاعة الحريات وتوسيع نطاقها، فهذا شرط أساسي لمواجهة خفافيش الظلام. لكن غير الطبيعي، أن تكون الجامعة أي جامعة هي الملعب الذي ترتع فيه هذه الجماعات التكفيرية، والسبب بسيط وبديهي.. وهو أن التكفير ضد التفكير. والتفكير هو أول شرط من شروط البحث العلمي. وإذا كان هناك أساتذة في جامعة الأزهر يشغلون مناصب قيادية في مجالس الكليات ومجلس الجامعة، وكان هؤلاء الأساتذة متعاطفين مع مثل هذه الأفكار التكفيرية.. فإن هذا لا يعطيهم الحق في استخدام المؤسسة الأكاديمية لغرض نشر الدعاية الظلامية، لأن دافع الضرائب مسلما كان أو مسيحيا هو الذي ينفق علي هذه المؤسسة. وإذا كان ما سبق وغيره الكثير يبين أهمية وضرورة إصلاح جامعة الأزهر، إصلاحًا شاملا ومنهجيا، يعيد لها دورها ووجهها الإنساني والتنويري والأكاديمي. فإن الحكمة تقتضي من مجلس جامعة الأزهر القيام بواجبه واستخدام صلاحياته لسحب الدرجة العلمية من هذه "الرسالة" التكفيرية. والامتناع عن الإقدام علي هذه الخطوة المطلوبة معناه موافقة مجلس جامعة الأزهر علي تكفير "روزاليوسف" أمس وغيرها من الصحف والمجلات التي لا تعجب هذا أو ذاك من المتطرفين.. غدا. ثم نشكو بعد ذلك وندعي إصابتنا بالمفاجأة والاستغراب عندما يطل الإرهاب بوجهه القبيح مرة أخري لا سمح الله علي أرض الكنانة.