لا توجد دولة في العالم تعاني الآن من شعور بالخسارة مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية؛ فعندما دخلت العراق كان الظن أنها لحظة لتتويج قوة أمريكا في العالم، ولحظة لتغيير الشرق الأوسط كله من دول متخلفة إلي دول متقدمة ومن دول استبدادية إلي دول ديمقراطية. وبغض النظر عن حقيقة هذا التصور من عدمه فإن التجربة انتهت بعد ثلاث سنوات من بدايتها في مارس عام 2003 إلي كابوس حقيقي تكلف قرابة ثلاثة آلاف قتيل أمريكي ومعهم طار أو تبخر مع الهواء قرابة تريليونان من الدولارات ومع هذه الخسارة كلها تضاعف عدد الإرهابيين في العالم وأصبحت كل الدنيا أقل أمانا مما كانت عليه من قبل، وبالتأكيد فإن كراهية الشعوب لواشنطن صارت أضعاف ما كانت عليه قبل إنشاء إدارة السياسة العامة في وزارة الخارجية الأمريكية والتي كان عليها تحسين الصورة الأمريكية. كل ذلك حدث لأن واشنطن ارتكبت سلسلة من الأخطاء الفادحة عندما غزت العراق، وعندما قامت بالغزو دون إعداد كاف لمرحلة ما بعد إسقاط النظام السياسي، وعندما ارتكبت خطأ جسيما بتفكيك الدولة العراقية، وعندما فعلت كل هذه الأخطاء دون قوات كافية ودون إنفاق كاف في الوقت المناسب. ولكن ما جري في العراق ليس هو موضوعنا الآن، ولكن ما يهمنا هو كيف تعاملت أمريكا مع أخطائها وذنوبها الإستراتيجية الكبري، فعلي عكس دول كثيرة فإن عملية العراق كانت تحت المراقبة المستمرة منذ بدايتها من قبل أجهزة كثيرة ومراكز للبحوث متعددة. وبعد فترة ليست طويلة كانت الأجهزة ومراكز البحوث قد توصلت أن ثمة خطأ بالغا قيما يجري في العراق وعلي عكس ما تقول به الإدارة الأمريكية التي ظنت دوما أنها تحقق إنجازات عظمي وأن ما جري من أخطاء يمكن إصلاحها. وبالتأكيد فإن وسائل الإعلام كانت سباقة في كشف ما يجري، والتحقق من كل ما يتم الادعاء به، ولكن أجهزة الإعلام لا تحكم المجتمعات التي توجد بها، كما أنه لا يمكن القطع باستبعاد الأهواء والنزوات السياسية والحزبية لها؛ ولذلك كان ضروريا أن تولد لجان للتحقيق والدراسة والبحث لنصح المجتمع والدولة والكونجرس. وكما حدث من قبل عندما تكونت لجنة الكونجرس للتحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فإن الكونجرس أيضا حث أربعة من مراكز البحوث الأمريكية- معهد الولاياتالمتحدة للسلام، مركز الدراسات الدولية والإستراتيجية ومعهد جيمس بيكر الثالث للسياسات العامة ومركز دراسات الرئاسة- لكي تكون لجنة قومية تعد تقريرا عن الموقف في العراق. وهنا نصل إلي الدرس الأمريكي في التعامل مع الكوارث والأخطاء التاريخية والتي يمكن أن نتعلم منها في إدارة أمورنا وربما تصحيح أخطائنا وكوارثنا القومية أيضا. هنا فإن الدرس الأول أن تكون اللجنة ذاتها قومية بمعني أنها تمثل التيارات السياسية في البلاد، بمعني تلك التي تري أن الخسارة الأمريكية في العراق- وقبلها في فيتنام أو في غيرها من المواقع- سوف تتحملها الولاياتالمتحدة كلها وليس الإدارة الأمريكية وحدها أو الحزب الحاكم وحده. ولذا فقد رأس اللجنة أحد القيادات الأمريكية الجمهورية ذات الوزن والخبرة _ جيمس بيكر وزير الخارجية الأسبق- ومعه واحد من القيادات الجمهورية ذات الوزن والخبرة أيضا وهو لي هاملتون عضو الكونجرس الأمريكي لسنوات طويلة. وبدون النظر إلي وزن كل حزب في الكونجرس أو في استطلاعات الرأي العام فقد انضم إلي هؤلاء خمسة من الجمهوريين ومعهم خمسة من الديمقراطيين يمثلون خبرات متنوعة: لورنس إيجلبيرجر وزير الخارجية الأسبق، وفيرنون جوردون وهو مدير واحدة من أكبر شركات المحاماة، وإدوين ميس المدعي العام الأسبق، وساندرا أوكنر التي كانت قاضية في المحكمة الدستورية العليا وتقاعدت مؤخرا، وليون بانيتا الذي عمل رئيسا لموظفي البيت الأبيض من قبل، ووليام بيري وزير الدفاع الأسبق، وتشارلز روب وآلان سيمسون وكلاهما أعضاء سابقون في مجلس الشيوخ الأمريكي. هذه الخبرات المتنوعة عملت بمجرد اختيارها باستقلال عن الكونجرس والإدارة الأمريكية وأصبحت لديها مسئولية واحدة أن تقيم السياسة الأمريكية في العراق وتضع توصيات بشأنها للرئيس والكونجرس والرأي العام الأمريكي. ولم تكن هذه اللجنة تعمل وحدها، بل حصلت علي المعاونة من 44 خبيرا عملوا في أربع مجموعات عمل، وكان عليهم التشاور مع 136 من وخارج الحكومة الأمريكية وعندما بدأت اللجنة في كتابة التقرير بعد زيارتها للعراق كان عدد من تشاورت معهم قد وصل إلي 171 . وقد عمل كل هؤلاء بشكل تطوعي ودون أجر لخدمة المصلحة القومية. لقد انتهت اللجنة أخيرا من تقريرها، وسلمته للرئيس والكونجرس وطرحته علي الرأي العام، ورغم كل ذلك فإن ما قالت به ليس ملزما لأحد لأن من قاموا بها لا يشغلون مكانا في الإدارة الأمريكية كما أنهم ليسوا منتخبين من الشعب الأمريكي. ولكن وزن من قام بإعداد التقرير يجعله ليس فقط جزءا من السجل العام حول الحرب الأمريكية في العراق، ولكنه أيضا يمثل معلومات وآراء متاحة لا يستطيع صاحب قرار إلا أن يأخذها في الاعتبار. فالديمقراطية تعمل في النهاية بوسائل متنوعة منها البحث عن الحكمة أين وجدت، وعن النصيحة الخالصة كلما كان ذلك ممكنا. وبدون الخوض فيما جاء في التقرير فإن أهم ما فيه بالنسبة لنا هو تجربته لأننا نحتاج مثل هذه اللجان القومية لفحص أمورنا بطريقة حكيمة وواعية. ومن المدهش أننا علي سبيل المثال لم ندرس أبدا كارثة عام 1967، ولم نعرف أبدا وبشكل محايد وموضوعي ومن خلال ممثلين لاتجاهات سياسية متعددة ما حدث بالنسبة للعبارة المصرية الغارقة، وفي الوقت الراهن فإن التعديلات الدستورية لا يجري الإعداد لها من خلال لجنة قومية لا تكون صاحبة قرار وإنما صاحبة رأي يمثل الحكمة لدي الرأي العام المصري. لقد آن الأوان لكي نجعل هذه الوسيلة من الوسائل الديمقراطية واحدة وسائل النسيج السياسي المصري خاصة وقد فعلناها مرة واحدة من خلال اللجنة التي أشرفت علي استعادة طابا وكانت التجربة ناجحة تماما فلماذا لا نعيدها مع الدستور هذه المرة أيضا؟! [email protected]