صدرت صحف الاثنين الماضي بمانشيتات تبشرنا بأن "أزمة الحجاب انتهت".. وكأن شيئا لم يكن! هكذا بكل بساطة تم شغل الرأي العام أياما متواصلة، بل وشحنه، ثم تقول الأطراف التي دقت طبول "الحرب" إن المسألة كانت مجرد زوبعة في فنجان! صحيح أنه ليست هناك معارك أزلية وأبدية، وأن كل الخلافات لابد أن تنتهي بطريقة أو بأخري. لكن ليس من بين الطرق المتعددة المعروفة لتجاوز الخلافات طريقة "التواطؤ" التي هي أقرب إلي "استعباط" الرأي العام. فمن الغريب أن يقود الإخوان المسلمون، داخل البرلمان وخارجه، حملة "مقدسة" ضد وزير الثقافة فاروق حسني رافعة شعار "واحجاباه" ثم يأتي فضيلة المرشد العام للجماعة الأستاذ مهدي عاكف ويقول ببراءة شديدة إن الموضوع لا يستحق كل هذه الضجة، ويقول الدكتور حمدي حسن المتحدث باسم الجماعة في مجلس الشعب إن القضية تمت تسويتها، وأن النفخ في نيرانها لم يكن ملائما، وأنها بطبيعتها كانت قضية سياسية، وأن مثل هذه القضايا تستدعي إحياء ثقافة الحوار. والله.. هذا ما سمعته بأذني في حديث بين الدكتور حمدي حسن وهو شخص دمث الأخلاق وبين الإعلامي اللامع الأستاذ جمال عنايت في برنامج "علي الهواء" بقناة الصفوة علي شبكة الأوربت. وتصريحات الدكتور حمدي حسن تصريحات معتدلة، لكن المشكلة أنها تتناقض تناقضا صارخا مع تصريحات عدد كبير من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين من قبل، وهي تصريحات كانت ترفض "ثقافة الحوار" التي ينادي بها الدكتور حمدي حسن اليوم، وكانت تشدد علي أنه لا حوار في مسألة الحجاب بدعوي أنها مسألة دينية لا مساومة عليها! والأعجب أن هذا لم يكن موقف الإخوان المسلمين فقط، بل كان هو ذاته ويا للعجب موقف نسبة معتبرة من نواب الحزب الوطني الذين تسابقوا مع نواب الإخوان في الهجوم علي وزير الثقافة. هؤلاء أيضا بعد أن أرغوا وأزبدوا، وهددوا بالثبور وعظائم الأمور، وقالوا إنهم لن يقبلوا بأقل من إقالة الوزير أو اعتذاره وتراجعه عما قال في حق الحجاب.. انقلبوا إلي النقيض وقالوا إن المسألة كلها سوء تفاهم. والأكثر عجبا أن رئيس مجلس الشعب الدكتور فتحي سرور صاحب نظرية أن الوزير ليس من حقه إبداء رأيه الشخصي في أي قضية، وإذا أراد ممارسة هذا الحق فعليه أن يترك أولا منصبه الوزاري.. استطاع أن يجد وسيلة لتبرئة فاروق حسني من "جريمة" الإدلاء برأي شخصي في قضية الحجاب، قائلا إنه مادام وزير الثقافة فاروق حسني لم يصدر أي قرارات بعدم جواز استخدام الحجاب في وزارته، وليس له سياسة ضد الحجاب، وأنه يحترمه، فإن الموضوع يكون قد انتهي، مشيرا إلي أن المجلس تأكد أن التصريحات قد تم تحويرها! أما العجب العجاب فهو موقف وزير الثقافة نفسه، وتعالوا نقرأ معا عناوين الصحف الصادرة صباح الاثنين الماضي في معرض تغطيتها لموقف الوزير: "الأخبار" اختارت عنوانا محايدا حيث كتبت علي صدر صفحتها الأولي "مصالحة بين مجلس الشعب وفاروق حسني". "الأهرام" قالت في عنوان مفرود علي أربعة أعمدة "قبول اعتذار فاروق حسني عن تصريحاته حول الحجاب". "الوفد" قالت في المانشيت الأحمر بالصفحة الأولي "وزير الثقافة يرفض الاعتذار الصريح ويتهم النواب بلي الحقائق". "نهضة مصر" افردت المانشيت الأحمر بنفس الموضوع لكنها قالت: "أزمة فاروق حسني انتهت.. بدون اعتذار". "روزاليوسف" الجريدة قالت: "وزير الثقافة يستعين بموظفاته المحجبات لتوضيح موقفه". أما "المصري اليوم" التي فجرت القضية أصلا فكتبت "أزمة الحجاب تنتهي بمعركة كلامية بين حسني ونواب الشعب"، "الوزير ينتقد الفتاوي العشوائية.. وسرور ل "المصري اليوم" الموضوع اتقفل" وحسني كاد ينسحب بعد اشتباك مع الأعضاء.. ونائب يغمي عليه بسبب الانفعال". والآن.. وبعد استعراض هذه العناوين.. ما الذي نفهمه؟ هل اعتذر الوزير أم لم يعتذر؟ هل تراجع عن تصريحاته الأولي أم لم يتراجع؟ الواضح أن هذه البلبلة ليست راجعة فقط لأسباب مهنية متعلقة بطريقة التغطية الصحفية لمثل هذه الأحداث والمعارك، وإنما راجعة أيضا للتصريحات حمالة الأوجه للوزير والحكومة ورئيس مجلس الشعب. فالجميع بما في ذلك نواب الإخوان المسلمين وليس الحكومة فقط قد "تواطأوا" بطريقة ما، من أجل "طبخ" تسوية ترضي جميع الأطراف بحيث لا يموت الذئب ولا تغني الغنم. أما القضايا الجوهرية الكامنة خلف هذه الأزمة "العابرة" فقد تم "التواطؤ" أيضا علي عدم الاقتراب منها. وأهم هذه القضايا تتعلق برؤيتنا لمستقبل هذه الدولة وهل تكون دولة دينية أم دولة مدنية علمانية؟ وبالتالي حدود وأسقف الحوار والحريات، وبالذات حرية التعبير والاعتقاد والإبداع؟ ومن الذي من حقه أن يضع هذه الأسقف. هذه بعض الأسئلة الجوهرية التي تواطأ الجميع علي كنسها تحت السجادة، والاكتفاء كالعادة بتبويس اللحي، والتوصل إلي تسويات سطحية ومسكنات موضعية لأمراض دفينة تحتاج إلي علاج حقيقي ودائم. لكن يبدو أن العلاج الحقيقي الذي ربما يكون آخره هو "الكي" لا يتناسب مع فلسفة "الاستقرار" التي يؤمن بها الجميع، حتي لو كان هذا الاستقرار.. هو الجمود سواء بسواء.