الحقيقة الواضحة وضوح الشمس في واشنطن وغير المعترف بها مع ذلك، هي أن الطريقة الوحيدة والمحتمة لإنهاء الحرب علي العراق هي ترك العراقيين يقررون مصيرهم بأنفسهم. ولكن أمريكا لا تقوم بذلك، وتواصل محاولاتها اليائسة لبناء شيء يتفق مع الأفكار والمثل الأمريكية، متناسية أن ما تهدف لبنائه ليست له علاقة أو له علاقة ضئيلة بالمجتمع العراقي وتقاليده وطموحاته وتاريخه. وقد أدت التطورات التي حدثت في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي إلي جعل أمريكا هي القوة العظمي الوحيدة في العالم، ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتستغلها الإدارة في محاولة السيطرة علي كل شيء مهم في هذا العالم، بزعم أن الولاياتالمتحدة تمتلك القدرة والكفاءة التي تمكِّنها من بذلك. ولم تكتفِ الولاياتالمتحدة في هذا السياق بغزو أفغانستان والعراق، وإطاحة حكومتيهما ولكنها سعت إلي إعادة تشكيل أنظمتهما المدنية والاقتصادية واستبدال نخبهما وتدمير جيش العراق وجهاز الدولة المدني فيه ومحاولة زرع ثقافة سياسية واقتصادية جديدة في الدولتين معاً ومحاولة تشكيلهما من جديد تحت القيادة الأمريكية. إنني لم أفهم أبداً الأسباب التي دعت الولاياتالمتحدة إلي حل الجيش العراقي علي الرغم من أن ذلك الجيش كان يبلغ تعداده 375 ألف جندي إضافة إلي 100 ألف جندي آخرين من قوات حرس الحدود والشرطة، وعلي الرغم من أن ذلك الجيش كان كفؤاً بدليل خروجه منتصراً من حرب دامت ثماني سنوات كاملة، كي تقوم بعد ذلك بمحاولة إنشاء جيش جديد تحت تدريب وإشراف وعقيدة عسكرية أمريكية جديدة. لقد تحجَّجت الولاياتالمتحدة أنها لو لم تفعل ذلك لظل ذلك الجيش تحت سيطرة جنرالات صدام حسين بيد أنها في الحقيقة تتناسي حقيقة مهمة يعرفها كل من خدم في الجيوش، وهي أن الجنرالات ليسوا هم المسيطرون الفعليون علي الجيوش، وأن الذي يفعل ذلك هم ضباط الصف بمساعدة محدودة من قادة السرايا والكتائب. كان هناك رفض متعمد من قبل فريق بوش للفكرة التقليدية، التي تقول إنه كان يتعين علي الولاياتالمتحدة بعد أن حققت النصر أن تبقي علي جيش صدام، وعلي الإدارة المدنية والبنية الصناعية والجامعات، لكي تقوم كل تلك المؤسسات بإعادة بناء نفسها بمبادراتها الذاتية، ووفقاً للتغير في الظروف، وبما يناسبها ولا يهدد جيرانها في نفس الوقت. الولاياتالمتحدة لم تتمكن منذ عام 2003، وحتي الآن من اجتياز المرحلة الأولي من برنامجها الخاص بصنع عراق جديد. وليس هذا فحسب بل إن سياساتها وإجراءاتها أدت إلي خلق حالة من الفوضي والفراغ السياسي، الذي كان يفترض أن يقوم العراقيون "الديمقراطيون" المتبنون للقيم الأمريكية بملئه. والحقيقة أن الولاياتالمتحدة إذا ما استمرت الأمور علي ما هي عليه في العراق لن تتمكن أبداً من اجتياز المرحلة التي بدأتها وهي" تدمير العراق". صحيح أن هناك دستوراً جديداً، ولكنه دستور تمت كتابته تحت التأثير الأمريكي. وصحيح أيضاً أن هناك حكومة جديدة، ولكنها حكومة تعمل تحت إشراف أمريكي دقيق، ولا تمتلك القدرة علي المعارضة وإذا ما فعلت ذلك فإنه يؤدي إلي حالة من التأهب في واشنطن خوفاً من أن تتمكن تلك الحكومة التي خلقتها أمريكا من إدارة شئونها علي النحو الذي تريده هي وليس أمريكا. ورامسفيلد كان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالسياسات الأمريكية الفاشلة في العراق إلي درجة أن الكثيرين في أمريكا وخارجها يعتقدون أن استقالته تمثل تغيراً حاسماً في مسار السياسة الأمريكية ببلاد الرافدين. ولكن طالما أن جورج بوش هو الذي يقود الفرع التنفيذي من الإدارة الأمريكية فإن المتوقع هو أنه سيستمر في قيادة هذا الفرع بالطريقة التي يراها مستفيداً في ذلك مما أطلق عليه التفويض الذي منحه الكونجرس باعتباره رئيساً في حالة حرب. وطالما أن الأمر كذلك فما الذي سيتغير إذن؟ صحيح أنه قد حدث تغير في المناخ السياسي في واشنطن برحيل رامسفيلد، وصحيح أن هذا التغير ليس مما يمكن التهوين من شأنه، إلا أن الأنظار لا تتجه للإدارة في الوقت الراهن لإحداث تغيير، وإنما تتجه إلي ساسة محنكين ممن عملوا في إدارة بوش الأب مثل بيكر وهاملتون اللذين يقودان الآن لجنة دراسة العراق التي يترقب الجميع التوصيات التي ستقدمها كي يروا ما إذا كانت تلك التوصيات ستكون قادرة علي تجاوز حدود الخوف وجنون العظمة اللذين يحكمان التصرفات والسياسات الأمريكية أم لا. لاستقالة رامسفيلد أهمية رمزية من حيث إن الرجل كان يمثل كل ما هو مُنفر في السياسة الأمريكية تحت حكم بوش مثل شن حرب عدوانية ضد دولتين وتدميرهما بناء علي تبريرات مفتعلة، وتبني أوهام أيديولوجية كونية، وشن حملة دعاية وتضليل إعلامي داخلي واسعة النطاق، وممارسة التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان سواء ضد الأمريكيين أم ضد السجناء الأجانب، والتشجيع المقيت لممارسة القسوة والوحشية في التعامل مع المدنيين العراقيين. ولكن وبصرف النظر عما إذا كان رامسفيلد شخصاً جديراً بالشجب، أم لا، فإن الحقيقة هي أنه لم يكن سوي مجرد رمز من رموز برنامج وطني له الآلاف من الأنصار داخل الحكومة الأمريكية والكونجرس الأمريكي والسلك السياسي الخارجي والصحف الأمريكية الرئيسية. ذلك الشعور بالراحة الذي ساد عقب إعلان نتائج تلك الانتخابات، والذي شعر به العديد من الأمريكيين سواء المقتنعين بآراء بوش أو غير المقتنعين بها، والترحيب الذي قوبلت به الإشارات الأولية المتسمة باللياقة والتهذيب والتي جاءت علي لسان "نانسي بيلوسي" باعتبارها رئيسة المجلس المنتخبة ورد بوش اللبق علي ما قالته، يبعث الأمل بأن هناك منعطفاً حاداً قد تم تجاوزه