تم تقديم تصريحات الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز الأخيرة، التي قال فيها إن الرئيس الامريكي جورج بوش هو الشيطان، وأنه ما زال يستطيع شم رائحة السولفور المنبعثة من المنصة التي وقف عليها بوش لإلقاء كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في اليوم السابق، عموماً من قبل وسائل الإعلام علي أنها مثيرة للضحك وغير معقولة. ولكن إنْ نظرت إليها باستخفاف- ربما علي شاكلة استخفاف العديد من الناس بخطاب بوش حول "محور الشر"- فإنك ربما لم تنتبه إلي ما يميز استراتيجية أقوي زعماء أمريكا اللاتينية وأكثرهم إثارة للجدل. بل ربما لست المستهدف من حديث شافيز أصلاً. فوراء التصريحات الفضفاضة واللمز بالألقاب دعوةٌ صيغت بدقة وعناية موجهة إلي جماهير امريكا اللاتينية. ذلك أن رؤية هوجو شافيز يقف أمام منبر الأممالمتحدة ويهاجم زعيم الولاياتالمتحدة أمام العالم، تمثل بالنسبة للعديد من سكان امريكا اللاتينية إنجازاً أكبر وأهم من الفوز بكأس العالم. والواقع أن استعمال شافيز للرمزية الدينية، ليس مصادفة بالطبع. ففي فنزويلا، يطلق شافيز علي المحطات الإعلامية الأربع الحرة التي تعارضه: "الفرسان الأربعة المذكورين في الإنجيل". كما يتهم الزعماء الكاثوليك الذين ينتقدونه بأنهم مسكونون بالجن وفي حاجة إلي من يخلصهم منه. وقد جعل هذا الخطاب الديني شافيز يحظي بإعجاب وتقدير سكان امريكا اللاتينية الكاثوليك؛ حيث يري العديد منهم شافيز_ مثلما يري شافيز نفسه- شخصية مسيحانية جاءت لتنتشل امريكا اللاتينية من تاريخ تبعيتها الطويل للعالم المتقدم. بل إن بعض رجال الدين ذهبوا إلي حد القول إن شافيز مبعوث إلهي. ولئن كان بالإمكان انتقاد شافيز علي اعتبار أنه يتزعم نظاماً دمر النقابات العمالية، ويضيق علي حرية التعبير، وينخره الفساد، فلا يمكن إنكار أن الرئيس الفنزويلي خطيب بارع وشعبوي من الطراز الأول. ذلك أن الخطابة هي إحدي نقاط قوة شافيز الذي يمتاز بالقدرة علي التأثير في عواطف الناس وأفكارهم، ويجعلهم يشعرون أنه بإمكانهم أن يصبحوا جزءا من شيء أكبر وأن يلعبوا دوراً في التاريخ عبر الانضمام إلي قضيته. أما العنصر المهم الثاني في نجاح استمالة شافيز لسكان امريكا اللاتينية فهو حسه القومي، الذي يجسده توظيفُه لسيمون بوليفار كرمز سياسي. فقد أعاد شافيز تسمية فنزويلا إلي "جمهورية فنزويلا البوليفارية"؛ وقيل عنه إنه يخصص مكاناً لبوليفار علي مائدة العشاء. فعلي غرار بوليفار الذي طرد الإسبان من معظم امريكا اللاتينية، يريد شافيز طرد نفوذ الولاياتالمتحدة من المنطقة، وهي فكرة يرحب بها الملايين من سكان امريكا اللاتينية الذين يرون في دعم واشنطن الطويل للنموذج الليبرالي الجديد- القائم علي المزاوجة بين الخصخصة والتجارة الحرة وسياسات التقشف- سبب ما أطلق عليه الرئيس الفنزويلي السابق كارلوس أندريس بيريز اسم "قنبلة النيوترون" التي تهدد سياسة التنمية في العالم الثالث، سياسة "قتلت البشر، ولكنها لم تلحق الأذي بالمباني". ولئن كان سجل الولاياتالمتحدة في المنطقة لا يبعث علي الافتخار، فإن إدارة الرئيس بوش- في ظل حربها غير الشعبية علي العراق، وسجلها في مجال حقوق الإنسان المثير للجدل، وإهمال امريكا اللاتينية- منحت شافيز كل الوقود الذي يحتاجه لإلهاب المشاعر وتأجيج النار. وعلاوة علي ذلك، فقد أظهرت إدارة بوش المنهكة بالحرب علي الإرهاب- ولاسيما وزارة الخارجية وأجهزة الاستخبارات الامريكية- أنها عاجزة تماماً عن إعاقة شافيز في وقت يقوم فيه بشراء الأسلحة، وإنشاء مليشيا قوامها مليون رجل، ونسج علاقات سياسية (بفضل دبلوماسية النفط)، وتناول وجبة الغداء مع فيديل كاسترو، ومواصلة نشر رسالته الإيديولوجية عبر العالم. باختصار، يمكن لشافيز المضي قدماً في تنفيذ أجندته اليسارية- انتقاد بوش بلا هوادة- دون خوف من الانتقام. وإذا كان البعض قد يضحك الآن من شافيز، فمن شبه المؤكد أن تتم إعادة انتخابه في ديسمبر لولاية أخري من ست سنوات. بل إنه ذهب إلي حد التلميح إلي رغبته في تغيير الدستور حتي يمكنه البقاء في السلطة إلي عام 2021. وعليه، فيمكن القول إن المشاغب الذي يجلس علي أكبر احتياطي نفطي خارج منطقة الشرق الأوسط لن يرحل قريباً!