الرحلات السريعة الي بيروت علي متن طائرات عسكرية والتي قام بها ممثلو الاحزاب السياسية الرسمية والمعارضة، والكتاب والمثقفون والفنانون واستهدفت اعلان التضامن مع الشعب اللبناني والتقاط الصور واجراء لقاءات مع الرؤساء الثلاثة في لبنان رئيس الجمهورية اميل لحود ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة ورئيس مجلس النواب نبيه بري، تركت انطباعا كبيرا في لبنان وعلي حد تعبير فؤاد السنيورة الذي قال لقد ارتفعت هاماتنا. ولا نقصد اجراء أي مقارنة ما بين موقف القوي الوطنية والسياسية والنقابية الآن وما حدث عام 1982 حين شارك عدد كبير من الكتاب والشعراء والفنانين والسياسيين المصريين في مقاومة الغزو الاسرائيلي للبنان وحصار بيروت. وسجل الشاعر والكاتب حلمي سالم تفاصيل هذا الدور حين لم تنقطع قوافل الدعم المصرية بحثا عن اي منفذ لاختراق الحصار في حين قدم الفنان الراحل عدلي فخري والشاعر زين العابدين فؤاد تجربة فريدة في الاغنية الثورية المقاومة. وقد يتساءل البعض هل يحتاج المحاصرون الي الاغاني؟ ويقدم حلمي سالم اجابة لهذا السؤال في كتابه الثقافة تحت الحصار وكيف كانت الاغنية ردا ملائما علي الحصار وكيف وجد المقاتلون وقتا للغناء في فترات راحتهم القليلة ما بين غارات الطائرات الاسرائيلية وقذائف الدبابات التي لم تهزم روح المقاومة وهي تلك الروح التي عادت بقوة لتنتصر مرة اخري في جنوب لبنان هذه الأيام، ولنقلب في صفحات المقاومة المنتصرة. سيظل كل من عاش تجربة حصار بيروت يذكر للفنان المغني المصري عدلي فخري الدور السامق الذي نهض به في ايام وليالي الحصار الطويلة. عدلي فخري ابن من ابناء التجربة الغنائية السياسية التي ازدهرت في مصر بعد هزيمة يونيو 1967 عندما بدأ الشيخ امام عيسي يغني من اشعار الشاعر احمد فؤاد نجم، اغنياته الناقدة لمقدمات وحاضر الهزيمة، مشرحا تجلياتها في البناءالسياسي والاجتماعي المصري. وسرعان ما شكل الشيخ امام من ناحية، وعدلي فخري من ناحية ثانية، ظاهرة الغناء السياسي الثوري في مصر منذ اوائل السبعينيات. ومثلما كون الشيخ امام مع الشاعر احمد فؤاد نجم ثنائيا شعريا غنائيا ناجحا، كون عدلي فخري مع الشاعر سمير عبدالباقي ثنائيا شعريا غنائيا نجاحا، ولكنه لم يكن شديد التماسك، اذ انفرط عقده بعد سنوات قليلة. وهكذا شكلت التجربتان - بتمايزهمافي المضمون الفكري والشكل الموسيقي - جناحين متواكبين متكاملين لظاهرة الاغنية السياسية الثورية المصرية. وعندما غادر عدلي فخري الي بيروت، صار جزءا حميما من ظاهرة الغناء الثوري التي تحفل بالعديد من التجارب المتباينة فيها. هذه التجارب العديدة التي رشحته - ترشيحا غير مكتوب - ان يكون صوتها الجوال في شوارع وخنادق بيروت المحاصرة. في الايام الأولي للاجتياح الصهيوني، والمعارك طاحنة علي طول الخط الممتد من الدامور حتي آخر حدود الجنوب اللبناني انطلق صوت عدلي فخري من "صوت فلسطين" صوت الثورة الفلسطينية، يغني من كلمات سمير عبدالباقي، لشباب القوات المشتركة في الجنوب. "درب الكفاح ما اطوله وحلمنا، ما اعدله يا شوق فلسطين للوجود غدر العدو فاق الحدود لكن في صور وفي الدامور بحد سيفه حنقتله ولم نكن نعلم، ساعتها ان هذا النداء المشرق سيكون لحنا افتتاحيا لكونشرتو بليغ، سيظل يتصاعد يتصاعد، حتي يبلغ مبلغ العطاء الرائق. من صبرا للمنارة كان عليه ان يلحن الاغنية الجديدة، تحت القصف وعلي هدير الطائرات المغيرة، أو علي هسيس عيون القنابل المضيئة ليلا، وكان عليه ان يذهب بها الي الفاكهاني - بعد ان يسجلها علي شريط في غرفته - حيث مقر اذاعة الثورة الفلسطينية. ثم كان عليه ان يلبي دعوة كل موقع - قتالي أو غير قتالي - في الليل أو في النهار: في المناطق الاقل تعرضا للخطر، وفي المناطق الاكثر تعرضا للوابل الغشوم، وهي الاغلب. ففي كل يوم جديد، كانت تضيق الرقعة الاقل تعرضا للخطر عن سابقه، حتي غدت كل المناطق - حينما وصل الجحيم الي تمامة - في فوهة اللظي. وما ان بدأ العدو حصاره حول بيروت، وتلويحه باقتحامها عسكريا، حتي انفجر نشيد عدلي الحربي، الذي كتبه الشاعر زين العابدين فؤاد: من صبرا للمنارة م الحمرا للشياح تهتف لنا الحجارة املوا الطرق سلاح سلاح سلاح سلاح نحمي ضهور الشوارع نحمي شمس الصباح نحميها بالمدافع من بيت لبيت لبيت نحمي كل البيوت نسقي قنديلنا زيت وتعيشي يا بيروت. وزين العابدين فؤاد شاعر مصري "عامي" من ابناء ذلك الصف الشعري الذي جاء بعد الصف الذي انتظم عبدالرحمن الابنودي وسيد حجاب واحمد فؤاد نجم وغيرهم من شعراء الحركة الشعرية العامية الثورية. أصدر ديوانين شعريين. الاول بعنوان "وش مصر" في العام 1972. والثاني بعنوان "الحلم في السجن" في العام 1978. ولقد تميز شعر زين العابدين فؤاد بين ابناء صفه من شعراء العامية الثوريين بالاعتناء الفني بالتشكيل الجمالي الي جانب نصاعة الموقف الفكري الثوري في العمل الشعري، بينما مال معظم اقرانه صوب التعبير السياسي المباشر بغرض ابراز الموقف السياسي الثوري في شكل "فني" تحريضي، مفتقر الي الكثير من عناصر التشكيل "الجمالي"، الذي يميز العمل الشعري الثوري عن "الخطابة" السياسية الزاعقة.