من يزور كابول اليوم، يلمس فيها دفئاً وحيوية وحرارة لم تكن تعرفها قبل أربع سنوات فحسب. وفيها تختلط وجوه الماضي ومعالمه بوجوه ومعالم الحاضر المعاصر، فيتداخل الجديد والقديم معاً، وتري عربات الكارو التي تجرها البغال والخيول وهي تقف جنباً إلي جنب مع أحدث السيارات وأفخمها، قبالة محال الأجهزة الإلكترونية التي تبيع أسرع وأحدث أجهزة الكمبيوتر! لكن وعلي غرار ما يحسه الزائر للعراق، إبان الأيام الأولي التي أعقبت تحرره من سطوة ونفوذ صدام حسين، فقد تبخرت تلك الحيوية والعنفوان، ليحل محلهما ما نري اليوم من عنف وقتل ومواجهات. أقول علي غرار ما حدث في العراق، فإن هذه الحيوية الخارجية التي يلمحها المرء في كابول، تخفي تحتها طبقة أخري مثيرة للخوف والقلق، جراء تصاعد ممارسات العنف وأعمال التمرد والقتل والترويع وبذر الخوف في نفوس المواطنين والأجانب علي حد سواء. ففي شهر يوليو المنصرم انفجرت قنبلة داخل إحدي الحافلات التابعة للجيش الوطني الأفغاني. وعلي الرغم من أن ذلك الانفجار لم يسفر عن قتل أي من الجنود المتواجدين داخل الحافلة وقتئذ، إلا أن 35 منهم كانوا في عداد المصابين، بينما تعرض ثلاثة لجروح وحروق خطيرة. ولكل منْ لا تزال ذكريات أيام التمرد الأولي في العراق حية ومتقدة في ذهنه، فإن أكوام زجاج النوافذ المحطمة في شوارع كابول وكذلك بقايا حطام الأبواب والمعادن، وفي استهداف المنشآت والمرافق الحكومية، وتكرار وقوع الانفجارات والهجمات المتعددة بالقنابل في مواقع مختلفة من العاصمة، ما يذكر ببدايات التمرد. من بين هذه، فإن ضوء القمر الذي يضيء بيت جيراني مباشرة، لهو أشد سطوعاً من بصيص الضوء الذي تبثه اللمبات الكهربائية المضاءة بالتيار الكهربائي الضعيف الساري من المولدات الصغيرة التي تستخدمها بعض البيوت والمنشآت ليلاً في كابول. واليوم فقد أصبحت كابول عرضة لهجمات المتمردين مثلما كان عليه حال بغداد في الأيام الأولي لاندلاع التمرد. وقد تجولت في شوارع كابول ليلاً ونهاراً، وفي مخيلتي أنني أحد الانتحاريين، فلم تعزني مطلقاً الأهداف التي يمكن لي تفجيرها وتنفيذ عملياتي فيها دون أدني صعوبة أو عوائق أمنية. فالغفلة الأمنية هنا تغري بتنفيذ الكثير من هذه العمليات. كما لاحظت أن بعض الوزارات تكاد تكون مشرعة الأبواب أمام المخربين والمعتدين، لأنه ليس بها من حاجز أمامهم سوي سياج معدني خفيف، من ذلك النوع الذي يمنع المارة من الدخول إلي تقاطع القاطرات والسكك الحديدية. أما حين دخولك إلي مبني أحد المرافق أو المكاتب الحكومية، فبالكاد يلقي الحراس المستاءون من عملهم نظرة إلي حقيبتك أو يجهدون أنفسهم في محاولة معرفة ما بداخلها. أما في إجراءات التفتيش الخاصة بالمطارات والمداخل الجوية لكابول، فما عليك سوي دفع ما قيمته دولارا واحدا، كي يغض المسئولون النظر عن إجراء التفتيش كله! وعلي رغم أني لا زلت أخرج في صباح كل يوم لشراء الخبز الطازج لإفطاري، فإنني بدأت أحث خطاي وأسرع بعض الشيء مؤخراً. وخلافاً للمرات السابقة التي زرت فيها كابول، فقد بدأت استشعر خوفاً من أن يختطفني أحدهم، حين أكون ماشية علي الأقدام، فتبطئ خلفي أو بجانبي سيارة عابرة دون سبب واضح مبرر. وكما حذرتني إحدي الأرامل العاملات في ورشة لخياطة الملابس، فإن علي توخي الحيطة والحذر من عمليات الاختطاف الواسعة الانتشار في المدينة حتي في منتصف النهار. فما أسهل أن يختطف الأجانب هنا بوجه خاص. فهناك أعداد لا تحصي من المجرمين والمتمردين القتلة، والمسلحين الملثمين الذين ينفذون ضرباتهم ليلاً وفي رائعة النهار. فكيف للتمرد أن يكون ما لم يتخذ هذا الشكل الواسع لتفشي أجواء الجريمة والعنف؟ وكما هو الحال في بغداد، فهنا أيضاً ترتفع نزعة العداء لأمريكا في شوارع وأنحاء العاصمة كابول. ومن بين أكثر ما يثار ضدنا: لماذا سمحت أمريكا لمنظمات إغاثتها الإنسانية بالتعاقد مع الشركات الأفغانية الفاسدة التي تصادر المساعدات ومواد الغوث الإنساني لنفسها ومصالحها هي؟ ولماذا لا يستخدم الأمريكيون المزيد من العمالة المحلية الأفغانية؟ ولماذا مرت أكثر من خمس سنوات علي الغزو الأمريكي لأفغانستان، بينما تفتقر أنحاء كثيرة من العاصمة كابول _ناهيك عن المدن الأخري والريف- إلي خدمات الكهرباء ومياه الشرب الصحية النظيفة؟! ثم لماذا لا يزال الفقر متفشياً في أوساط الغالبية الغالبة من الأفغان؟ وأين وعود الإعمار وإعادة البناء التي وعدتنا بها أمريكا؟ إلي ذلك يري بعض أعضاء البرلمان أن خيبة أمل المواطنين الأفغان في حكومة الرئيس حامد قرضاي الذي يبدو مجرد دمية أميركية في نظر الكثيرين منهم وشعورهم بعجز هذه الحكومة عن حمايتهم وتحسين أوضاعهم المعيشية، توفر جميعها تفسيراً لهذا الدعم الشعبي الصامت الذي تقدمه الأغلبية المقهورة في الريف الجنوبي الأفغاني لحركة طالبان المتمردة. لكن وخلافاً لما هو عليه حال التمرد العراقي، فقد نال الأفغان قسطهم وأكثر من الحروب الأهلية والتمزق السياسي والإثني والاجتماعي علي امتداد ما يزيد علي الثلاثة عقود. ولذلك فإنهم يأملون في السلام والاستقرار الأمني. ولكن المشكلة أن في السياسات الأمريكية المتبعة داخل أفغانستان، أصداء السياسات نفسها المتبعة في العراق. وتتلخص هذه الأصداء في محاولة إنكار حقائق الواقع ومغالطتها. ولكن هل أجدت هذه السياسات في بغداد من قبل، كي يجدي تكرارها هنا في كابول؟!