بعد دخول الحرب الإسرائيلية-اللبنانية أسبوعها الثالث، يظل المستقبل قاتماً ومظلماً، حتي وإنْ تم التوصل إلي حل للأزمة الراهنة، بما فيه إنشاء منطقة أمنية معزولة تجبر "حزب الله" علي الانسحاب بعيداً عن منطقة الشريط الحدودي التي يرابط فيها الآن. فخلافاً لرغبتنا في نشأة شرق أوسط جديد، ربما نكون قد ساعدنا في زيادة الأوضاع القديمة نفسها سوءاً. ذلك أن أهم ما كشفت عنه الأزمة الراهنة هو مدي فاعلية وخطورة الدور الإيراني فيها. فقد تمكنت طهران جراء تزويدها لحزب الله بترسانة من الصواريخ البعيدة المدي، من إحداث تحول جوهري علي المعادلة الاستراتيجية فيها، مدشنة بذلك وضعاً في غاية السوء والتعقيد، تمكنت فيه ميليشيا شيعية مسلحة من مواجهة القوة العسكرية الإقليمية الأشد منعة وبطشاً. والمعلوم عن طهران أنها لن تكف عن ميلها المستمر للتدخل في شئون الدول المجاورة لها، خاصة فيما يتعلق بتذكيرها المستمر للعالم العربي السني بأن لها بعض الأوراق القادرة علي لعبها، وبقدرتها علي إيلام الآخرين. وما هذه الاضطرابات الجارية الآن في كل من لبنان والعراق وقطاع غزة سوي تأكيد لحقيقة أنه ومتي ما اختارت طهران التدخل، فإن هناك تربة خصبة متاحة لها لفعل ما تريد. أما الاستنتاج الثاني الذي يمكن التوصل إليه من خلال قراءتنا للأحداث التي شهدتها الأسابيع الثلاثة الماضية فله علاقة بمخاطر الأحادية. وعلي حد معرفتي بمنطقة الشرق الأوسط، فإن لم يأخذ طرف ما مقابل ما يعطي، فإن ذلك لا يعني مطلقاً توقف مطالبته بمواصلة المزيد والمزيد من العطاء. وربما تكون إسرائيل قد أستفادت سياسياً علي الصعيدين الداخلي والعالمي من انسحابها الأحادي الجانب من لبنان في مايو عام 2000، ثم من قطاع غزة في سبتمبر من عام 2005، غير أنها عضدت شوكة كل من "حزب الله" وحركة "حماس" عكس ما تريد. لذلك فإن ادعاء كل من المنظمتين الانفراد وحدهما بإرغام إسرائيل علي الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها، لا تقف مراميه في حدود الكلام وحده. بل المقصود منه توجيه رسالة مباشرة مفتوحة للأجيال العربية الشابة، وحثها علي تبني أنجع الطرق الكفيلة برد الكرامة الجريحة للمواطن العربي عن طريق العنف والمواجهة المسلحة معها. ولا يفوت علينا أن الطريقة نفسها تطال الولاياتالمتحدةالأمريكية بسبب مساندتها المستمرة لإسرائيل. ولا غرو أن تحمس فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة علي إثر الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في مايو من 2000، وتجرأوا علي إشعال نار انتفاضتهم بعد أربعة شهور فحسب من ذلك الانسحاب. وفي الوقت نفسه، نقرأ من عنف وضراوة رد إسرائيل علي الهجمات العدوانية التي تعرضت لها من "حزب الله" في الثاني عشر من يوليو الماضي، ما يشير إلي قلقها من تراجع قدراتها علي الردع، واعترافها بالضعف الذي اعتراها مؤخراً. وما لم تتمكن إسرائيل من إحراز نصر ساحق وحاسم علي "حزب الله" في المواجهة الحالية _وهو احتمال ما أبعده فيما يبدو- فليس متوقعاً أن تقدم أي حكومة إسرائيلية علي خطوة الانسحاب الأحادي الجانب من أراضي الضفة الغربية في المستقبل القريب المنظور. الثالث الذي يمكن استخلاصه من تطور الأحداث ذاتها، فله علاقة بتحدي القوي غير الحكومية لأنظمة الحكم المركزي في المنطقة الشرق أوسطية. وما هذا الصعود الذي حققته كل من حركة "حماس" و"حزب الله"، سوي تتويج لتيار عام ظل يتنامي ويبرز دوره في المنطقة لبضع سنوات. ومما لا شك فيه أن التجربة العراقية كانت مصدر إلهام كبير لهذه القوي. ولك أن تري قدرة المجموعات المتمردة الصغيرة علي منازلة الحكومة المركزية ومواجهة القوات الأمريكية هناك كل يوم. ولا غرو في هذا أن أكبر تحديين تواجههما تل أبيب في كل من قطاع غزة والجنوب اللبناني، قد اندلعا حيث لا وجود تقريباً لنفوذ السلطة المركزية، وحيث أمكن ل"حزب الله" وحركة "حماس" إقامة "دولتيهما" الخاصتين فيهما. والشاهد أن "حماس" تلعب دور الحكومة والمعارضة معاً الآن في فلسطين. وعلي رغم الإنهاك العسكري الذي ألم ب"حزب الله" جراء الأزمة الراهنة، فإنه لا شك سيجني مكاسب سياسية ضخمة من مواجهته ومنازلته لإسرائيل. كما سيتمكن الحزب نفسه من توظيف المساعدات المالية الإيرانية المقدمة له، في التخفيف من محنة اللبنانيين المتأثرين بالحرب. وفي نهاية الأمر فسوف يسترد الحزب عافيته، ويعاود تسبيبه للقلاقل لإسرائيل مجدداً.