المتابع لما يجري حاليا علي الساحة السياسية الداخلية في مصر، سوف يُدهش برغم تشاؤم البعض من حالة النضج الداخلي في التعامل مع الشأن الديمقراطي. وهي حالة من الملاحظ أن منحني التعلم فيها يتصاعد بسرعة كبيرة، كما أن تراكم المعرفة والخبرة يتزايدان باستمرار بدون أن نشعر بذلك. فما كان يتحقق من قبل في سنوات بل عقود يتحقق الآن في أسابيع. وتوجيهات الرئيس مبارك الأخيرة للحكومة بالاستجابة لرأي الجماعة الصحفية في تعديل بعض مواد قانون عقوبات جرائم النشر جاءت بعد أخذ ورد وتشابك وتمحيص بين كل الأطراف ذات المصلحة. وهو نفس نمط الأداء وربما أفضل مما حدث من قبل مع قانون السلطة القضائية، حيث سخنت المعركة لفترة حتي وصلت إلي القمة، لكن في النهاية توصل الأطراف إلي نتيجة مرضية للجميع. والمهم أن النتيجة جاءت معبرة عن حدوث تقدم إلي الأمام مقارنة بالماضي وهذا هو المطلوب. إن أهم جوائز اللعبة الديمقراطية ليست في الحصول علي قانون جديد أو تعديل قانون موجود، ولكن في حدوث المباراة المجتمعية نفسها حول هذا القانون بصف النظر عن أهميته. فالمباراة نفسها هي النتيجة، فهي تمثل حافزا لوجود جمهور يتعلم ويشجع ويتابع ويقيم، وتسهم في ترسيخ قواعد لإدارة اللعبة تتطور وتنضج مع الوقت، بالإضافة إلي إنتاج حكمة للجميع فحواها أن لا شئ يمكن الحصول عليه بدون ثمن، وبدون أخذ وعطاء، وبدون تدرج من مرحلة إلي مرحلة أخري تالية. كنت في بيروت لحضور ورشة عمل عن إصلاح النظام الأمني في العالم العربي. وبشكل عام، وبالمقارنة بما يحدث حاليا في العالم العربي، تُعتبر مصر قد حققت قفزات هائلة في حرية التعبير، وفي تجديد هياكلها الديمقراطية، والأهم من ذلك وجود ديناميكية عالية ناتجة من حرص الجميع علي المشاركة في اللعبة الديمقراطية بجدية من أول رئيس الدولة إلي رجل الشارع البسيط. هذه النتيجة لم تحدث فجأة، وليست بعيدة الصلة عن تاريخ مصر المعاصر منذ قيام ثورة يوليو واختلاف أعضاء مجلس قيادة الثورة حول الخيار الديمقراطي والحكم من خلال الأحزاب، أو اختيار الطريق الثوري من أجل إحداث تغيير داخلي في بنية المجتمع السياسية والاجتماعية، وهو هدف كان من الصعب تحقيقه في وقت قصير من خلال الأحزاب الموجودة في ذلك الوقت، والمرتبطة بالملك أو الإقطاع ورأس المال. كان من بين أهداف الثورة الستة إقامة نظام ديمقراطي، لكن هذا الهدف لم يجد فرصته للتحقق بسبب تورط مصر وقتها في سياسات خارجية عربية ودولية، وفي حروب استنزفتها ماديا ومعنويا. ومن أهم ردود الفعل الداخلية لهزيمة يونية 1967 تذكر جمال عبد الناصر فجأة للديمقراطية، فكان "إعلان مارس" والوعد بإصلاحات داخلية ديمقراطية وإخضاع الحكومة للرقابة والمحاسبة المجتمعية السليمة. لقد حدثت النقلة الحقيقة في النظام السياسي المصري من حكم "مجلس قيادة الثورة" العسكري إلي حكومة يغلب عليها الطابع المدني مع تولي السادات الحكم وتغلبه علي مراكز القوي من خلال "ثورة التصحيح". لم يكن طريق السادات سهلا خاصة في وجود تحديات تحرير سيناء، لكن انتصاره في حرب أكتوبر منحته القدرة علي إحداث نقلة نوعية في الحكم من جيل "يولية" إلي جيل "أكتوبر" وتعيينه مبارك نائبا له. لقد وضع السادات دستورا دائما لمصر، وأنشأ محكمة دستورية لمراقبة دستورية القوانين ولم يمنعها أحد في عصر الرئيس مبارك من أن تقضي بعدم دستورية قوانين انتخابات مجلس الشعب وحله لأكثر من مرة. وللسادات يرجع الفضل في محاولة فتح الاقتصاد المصري علي الخارج برغم معارضة داخلية قوية مازال بعضها موجودا حتي الآن، وأيضا محاولته وضع اللبنة الأولي للنظام الديمقراطي في مصر من خلال فكرة المنابر إلي أن سمح في النهاية بتكوين أحزاب لم تأخذ فرصتها كاملة لبناء نفسها بصورة تمكنها من المشاركة في الحكم. بعد اغتيال السادات ورث الرئيس مبارك تركة داخلية ثقيلة من الناحية الاقتصادية، وكان عليه أن يتعامل مع التحولات الدولية في الثمانينيات والتسعينيات فركز علي تحقيق إنجاز في قطاع الاقتصاد علي أن يأتي الدور بعد ذلك علي تطوير النظام السياسي. ولاشك أن البنية الأساسية الحالية لمصر هي نتاج لما بذله الرئيس مبارك خلال السنوات العشرين الماضية، وبدون هذه البنية العملاقة لم يكن ممكنا إنجاز التحولات الاقتصادية الحالية وتحقيق الانفتاح الفعال علي العالم. لقد وصلنا حاليا إلي نقطة لم يعد فيها التقدم إلي الأمام بمعدلات عالية ممكنا علي محور واحد إذا تجاهلنا محاور التقدم الأخري. فمن الصعب مثلا تحقيق تقدم في مجال الاقتصاد بدون وجود إصلاح سياسي ديمقراطي شامل، وبدون حرية رأي، وبدون إعلام نشط وباحث عن الحقيقة. وهناك من يتصور أن الصخب السياسي الحالي في مصر قد يُخيف الاستثمار، ويعطي رسالة خاطئة للخارج عن استقرار مصر، وهو تصور غير صحيح لأن قراءة ما حدث في مصر منذ تعديل المادة 76 من الدستور وإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية يعطي انطباعا قويا بأن مصر تمشي علي نفس درب الحكومات الرشيدة في العالم والتي سبقتنا في التقدم برغم بعض الصعوبات والعثرات. ولو تابع الخارج النقاش الثري والمركب والمتعدد الأطراف حول قانون السلطة القضائية، وما جري منذ أيام حول قانون عقوبات جرائم النشر، لزادت ثقته في مناخ الاستثمار وليس العكس. فالموضوعات المثارة، وطريقة التعامل معها بواسطة الأطراف، ودور الرئيس في إدارة التفاعلات بسلاسة وحكمة؛ يدل علي أن الجميع علي علم وفهم بقواعد اللعبة الديمقراطية؛ وأن الصراع يتحرك بعيدا عن المعادلة الصفرية التي كانت الحكومة تصر عليها في الماضي. ومعني المعادلة الصفرية أنك في أية معركة تبيح لنفسك إن استطعت أن تأخذ كل شئ، وألا تعطي لغريمك غير الفتات، أو أن تقضي عليه بالضربة القاضية. وما يجري الآن في مصر لحسن الحظ يختلف عن فكرة المعادلة الصفرية. فهناك رغبة من الجميع أن يخرجوا معا من أية معركة فائزين، وألا يصر أحد علي الحصول علي كل ما يريد دفعة واحدة، لكن ربما علي مراحل، ومن خلال إرادة مشتركة من الجميع.