لا يوجد شك لدي أن مصر تغيرت كثيرا خلال العقود الماضية, كما لا يوجد لدي شك أيضا أن عملية التغيير هذه تجري حاليا, ولم أكن أبدا من المناصرين لفكرة أن هناك كوبا من الماء نصفه ممتلئ بالنسبة للبعض, وفارغ بالنسبة للبعض الآخر. فظني أن الامتلاء والفراغ كلاهما دوما في حال جدل وتفاعل يجعل الفصل بينهما مستحيلا. ومن الناحية العملية فإن ذلك يعني وجود تغييرات تأخذ البلد قدما إلي الأمام وأخري تحاول جذبها إلي الخلف أو إبقاء الأمور دائما علي ما هي عليه باعتبار أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. وعند ملاحظة ما يجري في لجنة السياسات والحزب الوطني الديمقراطي ومجلس الشوري وبالطبع السياسة في مصر وجدت أن المسافة الزمنية ما بين وجود فكرة جيدة وتطبيقها تصل ما لا يقل عن عشر سنوات وربما لا تستقر في تطبيقها قبل عشرين. وإذا كان أحد لا يصدق فإن فكرة تطبيق معايير الجودة في التعليم, وإعطاء الفرصة للجمعيات الأهلية والشركات لإقامة الجامعات المستقلة والخاصة, وقوانين الضرائب والجمارك والعقارات, وكلها من المتغيرات الكبري في الدولة استغرقت وقتا طويلا حتي تري النور. ولو أخذنا في الاعتبار كيف انتهي بها الحال في التطبيق ربما لكانت لنا تحفظات كثيرة علي مدي التغيير, وتقدير أكبر لقوي المراجعة والتحفظ والتراجع ومدي شراستها في المجتمع. والمدهش أنه بينما يكتسح العالم' الظاهرة الأوبامية' بمعني الدفع للقيادة بأجيال شابة وفتية وبأشكال وأفكار تتحدي المحافظة في المجتمع, فإن النجوم الجدد في سماء السياسة المصرية كلهم ينتمون إلي أجيال راحلة, وفي هذه الأجيال يوجد من يأسف أنه لم يصبه الدور في الشأن العام, أما من أصابه الدور فلا يعرف علي وجه التحديد ما الذي يفعله به لان المجتمع كله حائر ما بين الرغبة في التغيير والخوف منه. ورغم أن الرأي العام في مصر يطالب من الناحية النظرية دوما بالتغيير كمدخل للتطور الاجتماعي والاقتصادي, لكن حينما تأتي لحظة التغيير الحقيقية يفضل أوضاع الثبات باعتبارها مؤشرا للاستقرار, وهكذا تمثل الثقافة المجتمعية واحدة من المعوقات لمسار التطور الذي يشهده المجتمع. وهناك بعض المقولات الدارجة في الثقافة الشعبية التي تعبر عن هذا المعني مثل' اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش', علي نحو ما يتضح في تكرار بعض الوجوه الفائزة في الانتخابات البرلمانية, الناتجة عن اختيار عناصر المجتمع وإن حدث تغير نسبي خلال انتخابات2000 و2005, وعدم اختيار الكوادر الشابة أو العناصر النسائية لاسيما في البيئات شديدة التقليدية, فضلا عن تفضيل أعضاء عدد كبير من النقابات المهنية لجيل الخبرة عن جيل الشباب أو التغيير في الانتخابات التي تجري دوريا. وكذلك تتضح مقاومة المجتمع للتغيير في بعض القرارات التي ظلت معطلة علي مدار عدة سنوات ومنها معارضة تجربة نقل الوزارات من العاصمة أو مقاومة أولياء الأمور والطلاب لحدوث تغيير في نظام التقويم الدراسي بنظام القراءات الحرة والساعات المعتمدة بدلا من المقرر الدراسي ونظام الامتحانات التقليدي. علاوة علي ذلك, يعد واحدا من أسباب تباطؤ التطور المجتمعي في مصر غياب الإدراك المجتمعي لقيمة الوقت, مع الأخذ في الاعتبار أن إدارة الوقت ثقافة مجتمعية. فرغم ما يردده المصريون من مقولات بأن' الوقت من ذهب' و'الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك', وما بدأ تنظيمه من دورات تدريبية من جانب بعض الجهات الأجنبية أو المنظمات غير الحكومية في مصر عن' إدارة الوقت' إلا أن هناك غيابا لتوظيف واستثمار الوقت اللازم لإنجاز كل عمل والاستفادة منه في تحديد الأهداف والأولويات. ولاشك أن تغيير النسق القيمي سواء للمصريين أو غيرهم يحتاج لفترة طويلة من الوقت. فضلا عن ذلك هناك ضعف في حصيلة التضافر المأمول لما يسمي بالمسئولية الاجتماعية المشتركةcorporatesocialResponsibility بين كل من الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني في مصر, ورغم الاعتراف بأن هناك تطورا يحدث ولكنه ليس كافيا لإنضاج تطور مجتمعي في البلاد, يسمح لها بالانتقال من حال إلي حال آخر. هذه الحالة يدعمها توحش البيروقراطية في الدولة المصرية حيث تمثل ما يزيد عن سبعة ملايين من البشر, ويتسم أداؤها في الغالب بضعف الإنتاجية, ومقاومة الآراء الداعية إلي خفض عدد الوزارات ودمج بعضها أو الاعتماد علي وسائل أخري للتقييم بخلاف الأقدمية والهيراركية الوظيفية لتكون الكفاءة والإنجاز والابتكار, وفي كثير من الأحيان تقاوم أية محاولات للإصلاح الاقتصادي وتعتبرها إما الاتجاه لبيع البلاد للأجانب أو التفريط في الثروة القومية أو التمهيد لسيطرة رأس المال علي الحكم. إن القواعد والإجراءات المطبقة في الكثير من الدوائر والمصالح الحكومية تتعارض مع نهج اللامركزية والميل إلي التعددية في اتخاذ القرارات الذي تأخذ به دول العالم المتقدمة. وقد ينتج عن ذلك الوضع في مصر بطء اتخاذ القرارات ومن ثم ينعكس علي مسار تنفيذها, لدرجة أن هناك من يري القرار المصري أشبه بالسلحفاة. علاوة علي أنها- أي البيروقراطية- تعتمد في التعيين علي الواسطة والمحسوبية. ويجعل من التغيير معضلة كبري بطء دوران النخبة حيث ثمة علاقة جدلية بين التغيير والاستمرار في بنية النخبة السياسية المصرية, أو ما يطلق عليه في الكتابات بالإحلال النخبوي. وبوجه عام, تتسم النخبة السياسية في مصر بقدر كبير من الاستمرارية وقدرة متزايدة علي التوالد الذاتي, وإن حدثت تغيرات فهي تعمل لصالح الاستمرارية, فيما يعرف بإعادة تدوير النخبة, عبر تنقل لأفرادها داخل الإطار الأوسع للنخبة وليس استبدالها بآخرين. لذلك تشهد مصر, في كثير من الأحيان,' تعديلا' وزاريا يتسم نطاقه بالمحدودية وليس' تغيير' وزاريا كاملا. وهناك مؤشر محدد للتعبير عن هذا البطء هو مدة البقاء في المنصب. ومن الملاحظ أن هناك بعض الوزراء أو المحافظين أو المسئولين في الجهاز الإداري للدولة قد يبقون في مواقعهم لمدة تقارب أو تتجاوز العقدين من الزمن, بل هناك من يتولي عدة مناصب في وقت واحد, بل تتاح للكثير منهم بعد خروجهم مناصب مرموقة, وهو ما يؤدي إلي القضاء علي الطموح الوظيفي لدي الأجيال الجديدة من المصريين, في الوقت الذي تتزايد فيه فرص' النخبة الشابة' في بعض الدول المتقدمة, مثل الولاياتالمتحدة وبعض دول أوروبا الغربية واليابان والصين وبعض النمور الآسيوية, بحيث يصبح شاب يبلغ ثلاثين عاما رئيس شركة أو مدير بنك أو رئيس تحرير صحيفة أو إدارة سلسلة مكتبات. يحدث ذلك في مصر برغم أن هناك جيلا جديدا في البلاد يتواصل مع العصر بشكل مختلف عن الأجيال التي سبقته, عبر امتلاك خلفية تعليمية متميزة ومؤهلات علمية محددة, وتنمية الحس النقدي وإتقان اللغات الأجنبية والتعامل مع أدوات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. وأصبح لديه خبرات تتجاوز الحدود الوطنية عبر العمل في المنظمات الدولية والشركات متعددة الجنسية. وبدأ هذا الجيل الحالي يبلور تخصصات نادرة في علوم بعينها, نتيجة إدراك لدي البعض منهم أن الندرة تولد القيمة. فلا يمكن لمجتمع أن يعرف طريقه للتقدم بدون العلم والمعرفة في مجالات لم يعرفها من قبل. وفي مقابل ذلك هناك عناصر من نفس الجيل وأجيال أخري سابقة تعاني من ضعف في القدرة التنافسية في مخرجات التعليم والتعثر في تلبية احتياجات سوق العمل, وهو ما يترتب عليه غياب الأمان الوظيفي لهم وتتفكك بعض الروابط التي تجمعهم بمجتمعهم, لدرجة تصل إلي حد الانفصال. إن هذا المقال دعوة لإدخال عنصر الزمن في مداولاتنا حول التغيير وتقدم البلاد, حيث كثيرا ما تنعدم الصلة ما بين الفكرة والزمن, وعندما يحدث ذلك لا يختفي فقط ما يحدث من تغيير, وإنما يظهر معه المفارقة الكبري ما بين بلدنا وبلدان أخري فتبدو المسألة المصرية كلها ظاهرة في ثبات كبير. والأكثر خطورة من ذلك أن البلاد تحرم في تلك الحالة من قوة الدفع والاندفاع التي تنتج عن تزامن عمليات التغيير أو تفاعلها مع بعضها البعض أو تحقيق التراكم الضروري الذي يوفر شروط الانطلاق واختراق الحاجز ما بين التخلف والتقدم والفقر والغني. ولعل ذلك كان قصة كل البلدان التي تقدمت, عندما نجحت في توفير سلسلة من التغييرات في بنيتها الإنتاجية والاجتماعية والمؤسسية قادت كلها إلي عملية الانتقال هذه. ومن لا يصدق فما عليه إلا مراجعة قصص الانتقال في آسيا وأوروبا وأمريكا الجنوبية والتي تحكي كلها عن قصة من الاندفاع; وفي الوقت نفسه مراجعة قصتنا نحن والتي درنا فيها في حلقات متتابعة من التقدم والتراجع, والتغيير والركود. وخلال المرحلة المقبلة حيث انتخابات مجلسي الشوري والشعب ورئاسة الجمهورية فإن برامج المرشحين لا بد لها ليس فقط أن تتضمن أفكارا مبتكرة بل لابد لها من المقارنة مع تطبيقاتها في بلدان أخري حزمت أمرها علي السير في طريق التقدم والرفعة. وخلال الفترة القصيرة الماضية لاحظت انتشارا علي شبكة الإنترنت لجماعات من الشباب تحث علي ضرورة المشاركة في العملية السياسية; وبينما يحمد لها أنها تفكر بشكل إيجابي من خلال المشاركة, والعمل علي نظافة ونزاهة العمليات الانتخابية, فإن فيها القليل حول ما يراد تغييره والسرعة التي ينبغي بها تحقيق ذلك. لقد آن الأوان للإدراك أن الزمان لن ينتظرنا كثيرا مادام أن الزمن ليس عنصرا رئيسيا في كل حساباتنا سواء الآن أو في المستقبل.