قالها لهم ذات يوم هنري كيسنجر، أي "للإسرائيليين"، وبكل ما يتوقع منه من صراحة لمن هم اعزاء علي قلبه: "لا تحاولوا ان تنافسوا وتغلبوا الفلسطينيين في مجال اسمه الحق". الحق، ومن فم مفكر يهودي، هو فلسطين وامتلاك فلسطين. أما مقابل هذا الحق الذي بدأ بالعزل فكانت "إسرائيل" المطلقة القوة، "إسرائيل" المتعملقة أبدا عسكرياً وتكنولوجيا، "إسرائيل" الضاربة والرادعة التي تسيل الدماء وتفتك بالضحايا اعتماداً علي فلسفة ردع مؤداها انها لا تقتل جماعياً وتقصف وتدمر مدنا وتحاصر مدنا أخري وتغتال القادة بالصواريخ والسم للحاضر فقط، وانما ايضا لتكون افعالها امثولة ورادعا للقادمين من اجيال العرب. "اسرائيل" هي استعداد جاهز وحركي للاعتداء والانتقام وبدمج طبيعتها الحمراء والاجرامية علي كل جزئية من تاريخنا منذ كانت والذاكرة العامة لاجيال الفلسطينيين والعرب وعلي مدي التاريخ المعاصر الحي تطفح كلها بصور البطش والعدوانية "الإسرائيلية". قوة البطش والترهيب والسحق هي الآن ضرورة متجددة ل "إسرائيل" وهي تقوم بتجسيدها بأقصي ما تستطيع في حربها ضد غزة وضد الفلسطينيين عموما. في ذروة هذا كله صار هناك ما يدحض هذه الصورة للقوة المطلقة القدرة، وهذا هو التطور الجديد في صيرورة الحق الفلسطيني في مقابل "إسرائيل" وما اعنيه هو فقدان "إسرائيل" لفاعلية قوتها وبشكل واضح لا يمكن الخطأ فيه، وذلك ليس فقط كواقع علي أرض المواجهة الحالية وانما كقناعة عامة تترسخ في اذهان الكثيرين من العرب. ما يجدر التشديد عليه هو ان هذه القناعة كانت مؤهلة لأن تخرج، وقد خرجت من رحم مشهد ناطق بكمية قصوي من افعال "إسرائيل" في الاجرام والطغيان، من مثل مشهد هدي غالية الذي وضع العرب علي تماس مباشر، وعلي وقع صرخات الضحية هدي، مع وجه "إسرائيل" المجرمة والعنصرية. ان كانت السياسة العربية الرسمية والاعلام العربي قد "أنسنا" "إسرائيل"، فالمشهد اظهر للعقل العربي "إسرائيل" علي حقيقتها الواقعية. ولم تنكشف "إسرائيل" علي حقيقة عدوانيتها ووحشيتها المطلقة وانما كان المشهد ايضاً يبعث احساساً عاماً بأنها مهزومة تاريخيا واخلاقيا أمام قوة صرخات البنت الجريحة بإبادة عائلتها. لقد وضعت هدي موضع التجريد وأمام الاعين كلها موضوع الحق الفلسطيني في مقابل باطل طغيان القوة الذي لا يمكن الا ان يكون هشا ومنتهيا كحتمية تاريخية كما خبرت ذلك اجيال تعاقبت عليها دروس التاريخ. كان الشعور العام بوجوب الاستقواء علي دولة كهذه هو دورة صراع جديدة ولدها ما حدث لهدي غالية التي انهت لاجلها كتائب القسام هدنتها مع "إسرائيل" والتي وضعتها أيضاً الفصائل الثلاثة المشاركة في عملية "كرم سالم" علي رأس اسبابها للقيام بها. الحق الفلسطيني، وهو أساساً حق الضعفاء، أوجد وسائل اقتداره خلال سنوات الصراع والنضال ضد "إسرائيل". وهو الآن اكثر اقتدارا من أي وقت مضي. وذلك ليس في تطويره لاسلحته الذاتية وصواريخه "البدائية" التي يصل مداها مع ذلك الي عسقلان، والتي حاولت "إسرائيل" كل ما كان باستطاعتها منع انتاجها واطلاقها علي المستوطنات وفشلت. وهذا الاقتدار ليس ايضا بعملية مثل "كرم سالم" التي سجلت فيها المقاومة تفوقا نوعيا علي "اسرائيل" واظهرت ثغرات دفاعاتها ومخابراتها وجيشها بشكل عام. الاقتدار الفلسطيني هو في تعطيل قوة الردع "الإسرائيلية"، وهذا التعطيل ليس ناتجا عن تواني الجيش "الاسرائيلي" في ضرب الفلسطينيين، وانما في كون الطائرات والصواريخ والدبابات لم تعد قادرة علي هزيمتهم. وبحسب المقولة الصهيونية "ان كل اتفاق انكشاف للوهن والضعف "الاسرائيلي" هو مصدر قوة للفلسطينيين". الوهن الذي تتحدث عنه الصحافة "الاسرائيلية" هو وهن قوة الردع "الاسرائيلي" التي لم يعد يخاف منها الفلسطينيون. ان شعبا هزمت قوته الانسانية الاسطورية وصبره "إسرائيل" وآلتها الحربية هو الشعب الذي يقدر أيضاً علي اخراج نماذج القوة الفردية من مثل الفتي وليد الشحروري الذي نازل قوة كبيرة للجيش "الإسرائيلي" بسلاحه الفردي وهو جريح ولمدة عشرين ساعة. تابعت الملايين العربية بطولة وليد الشحروري الذي قذفته "إسرائيل" بأنواع الصواريخ والقنابل الصوتية وغيرها. وهذا الذي نشهده الآن، أي احتضان الأمة لوليد وترديد سيرته ومديحه وتدبيج الشعر فيه، هو أمر طبيعي، القوة الانسانية الفلسطينية يذهب صداها الي المحيط العربي. فليس الفلسطينيون هم من يتلقي الدعم من اخوانهم العرب، بل العكس هو الصحيح وهو ما هو قائم الآن. النضالية الفلسطينية اوصلت "اسرائيل" الي وضع ملخصه هو ان كل ما تفعله هو بلطجة وتهور وجنون، والجدير بالسؤال هو لماذا ظهر "التحرك العربي" الآن؟ ما الذي يفعله هذا التحرك حقيقة في ظل العجز "الإسرائيلي" التام؟ هل هذا التحرك هو للحد من وقفة القوة الفلسطينية وإلا فلماذا الضغط علي حماس عربياً؟