بعد أن انتهيت من قراءة كتاب المؤرخ الإسرائيلي/البريطاني آفي شلايم الأخير «إسرائيل وفلسطين» قررت فورا ترجمة بعض ما جاء فيه. وعنوان الكتاب الكامل هو «إسرائيل وفلسطين: إعادة تقييمات، مراجعات، تفنيدات» وصدر في منتصف 2009 في بريطانيا عن دار فيرسو للنشر Verso ويتكون من 4 فصول تحتوي علي 30 مادة تقع في 392 صفحة من الحجم الكبير نشرها شلايم سابقا كمقالات وحوارات في مطبوعات مهمة مثل جريدة الجارديان اللندنية، ومجلة نيويورك رفيو أوف بوكس، ولندن ريفيو أوف بوكس، وجويش كرونيكل وغيرها. ونظرا لكون هذه المقالات في غاية الأهمية والإثارة وتحتوي علي متعة فكرية مذهلة، قررت إعادة تصفح الكتاب بسرعة لكي أختار أفضلها للقارئ العربي. وكانت المفارقة المدهشة أنني وجدت مقدمة الكتاب في قمة الروعة والأهمية وتستحق الترجمة قبل أي مادة من مواد الكتاب لأنها تلخص رؤية المؤلف وهدف الكتاب كما تقدم - وهذا الأهم بالنسبة لي -درسا تطبيقيا نادرا ومدهشا عن فن مراجعة وإعادة قراءة وكتابة التاريخ بتجرد وحياد يصل لدرجة الإبهار، وفيه نقد مدهش للذات واعتراف المؤلف بتفوق المفكر الفلسطيني/الأمريكي الكبير الراحل إدوارد سعيد رحمه الله علي المؤلف في تحليل معاهدة أوسلو لعام 1993 ومثل هذه الأمور الفكرية نادرة الحدوث بل ربما مستحيلة التحقق في ثقافتنا العربية البائسة ولم يسبق لي أن قرأت مثلها لمؤرخ أو مفكر عربي. واخترت للمقدمة عنوانا معبرا من عندي. والكلمات التي بين (قوسين) للمترجم كالعادة وكذلك علامات التعجب/التأثر. وقد لا أتفق مع بعض فذلكات شلايم القانونية/السياسية ولكنني لا أملك في النهاية سوي أن أرفع قبعتي تحية له علي جرأته وحياده المبهرين لصدورهما من مؤرخ إسرائيلي عتيد. آفي شلايم ولد في بغداد عام 1945 لوالدين يهوديين ثم هاجر ونشأ في إسرائيل حيث خدم في الجيش الإسرائيلي في منتصف الستينات، ثم حصل علي البكالوريوس في العلاقات الدولية من «كلية كامبريدج للاقتصاد» المرموقة ومن ثم حصل علي الماجستير في العلاقات الدولية من «كلية لندن للاقتصاد» الشهيرة وأخيرا حصل علي الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة ريدنج البريطانية المعروفة. يتقن شلايم تماما وبطلاقة اللغة العربية والعبرية والإنجليزية كتابة وتحدثا. يحمل شلايم الجنسية البريطانية مع جنسيته الإسرائيلية. وهو حاليا زميل باحث في كلية سانت أنتوني المرموقة التابعة لجامعة أكسفورد والمتخصصة في تدريس علوم السياسة والعلاقات الدولية والاقتصاد حيث يعمل أستاذا في تخصص «العلاقات الدولية». كما حظي مؤخرا بشرف رفيع عندما انتخب أيضا كزميل Fellow في «الأكاديمية البريطانية»British Academy العريقة عام 2006 وهو أرفع منصب بحثي في هذه الأكاديمية ذات الشهرة العالمية فائقة الصيت. والأكاديمية البريطانية هي أرفع مؤسسة علمية وطنية في المملكة المتحدة بل في العالم في تخصص الإنسانيات والعلوم الاجتماعية وتعتبرالرائدة عالميا في تقدم وتطور هذين المجالين المهمين. أسست بقرار ملكي في 1902 وعدد زملائها الآن أكثر من 900 عالم وعالمة فقط ولكنهم نخبة النخبة في العالم، وهي مستقلة وذاتية الحكم. يدل الاختيار في زمالة الأكاديمية علي تميز علمي عال وعالمي لا نظير له في أحد فروع الإنسانيات أو العلوم الاجتماعية مؤكدا ومشفوعا بأعمال مطبوعة طبعا. وتمنح الأكاديمية 11 جائزة وميدالية رفيعة سنويا في جميع فروع المعرفة التابعة لها. يقول شلايم عن نفسه في مقدمة أحدث كتبه «إسرائيل وفلسطين: إعادة تقييم، مراجعات، وتفنيدات»: «أنتمي إلي مجموعة صغيرة من العلماء الذين يطلق عليه أحيانا «المؤرخون المراجعون الإسرائيليون» Revisionist Israeli Historians وأحيانا: «المؤرخون الجدد» New Historians المجموعة الأصلية شملت: بيني موريسBenny Morris من «جامعة بن جوريون»، وإيلان بابيIllan Pappé من «جامعة حيفا». لقد سمونا «المؤرخون الجدد» لأننا تحدينا الرواية الصهيونية الرسمية السائدة والمعتمدة عالميا لأسباب النزاع العربي الإسرائيلي، وتحدينا تحديدا «الخرافات» العديدة حول تكوين دولة إسرائيل والحرب العربية الإسرائيلية الأولي عام 1948». ويقول شلايم عن مهمة المؤرخ: «دور المؤرخ الحقيقي أن يخضع الأحداث أو الادعاءات الرئيسية في الرواية التاريخية للمراجعة وللنقد العلمي الموضوعي الصارم بدون تحيز ولا هوي لأي طرف وذلك في ضوء جميع المصادر والمراجع المتوفرة بعد تلك الحادثة التاريخية من وثائق أرشيفية وكتب سيرة ذاتية وشهود وغيرها». للبروفسور شلايم العديد من المؤلفات المهمة منها مثلا: «التآمر عبر الأردن: الملك عبد الله والحركة الصهيونية وتقسيم فلسطين»، و«سياسات التقسيم: الملك عبد الله والحركة الصهيونية وفلسطين 1921- 1951»، و«الحرب والسلام في الشرق الأوسط: تاريخ دقيق»، و«الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي». يعيش شلايم في مدينة أكسفورد بصورة دائمة ويكتب في جريدة الجارديان اللندنية بصورة شبه منتظمة وهي جريدة عريقة تأسست عام 1821 وتعبر عن الطبقة الوسطي البريطانية وتصنف سياسيا كيسار الوسط center-left. ح.العيسي الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني يعتبر من أصعب الصراعات السياسية منذ بدء الخليقة لكونه مرا وطويلا وعنيفا ويبدو كأنه لا يوجد مجال مطلقا للتسوية فيه بما يرضي الطرفين. هذا الكتاب يجمع معا كتاباتي السياسية في المسألة الفلسطينية خلال ربع القرن الأخير. وباستثناء مقال وحيد عن وعد بلفور لعام 1917، فإن المدي الزمني لمواضيع هذا الكتاب يمتد من حرب 1948 وتنتهي بالحرب الأخيرة (تعليق المترجم: بل الحالية) المتوحشة التي تشنها إسرائيل علي قطاع غزة منذ ديسمبر 2008، وبين هذين التاريخين الميلانخوليين (الكئيبين)، تقع تقريبا جميع أحداث الصفحات القادمة. ورغم أنني كتبت مقالات هذا الكتاب في فترات مختلفة فإنه يوجد شئ مشترك يربطها وهو تقديم شهادة لرأي بديل عن النظرة الحساسة إسرائيليا لتقييم الماضي. وهي مقالات تؤكد اعتقادي اليقيني بأن الماضي هو أفضل مرشد لفهم الحاضر وتوقع المستقبل. ويجب أن ندرك جميعا أنه فقط عندما نملك «فهما» جيدا للتاريخ المعقد والمتوحش لهذا الصراع، نستطيع أن نستوعبه وبالتالي نتمكن من حله. وبموازاة الصراع السياسي الإسرائيلي-الفلسطيني يوجد صراع مواز بين روايتين وطنيتين «مختلفتين» للأحداث. وفقط عندما نقرأ ونأخذ في حسابنا هاتين الروايتين «بحياد كامل»، نستطيع أن نكون صورة حقيقية عن خصوصية وديناميكية هذا الصراع الوجودي التراجيدي واحتمالات حله. المؤرخون الجدد أنتمي إلي مجموعة صغيرة من العلماء الذين يلقبون أحيانا «المؤرخون المراجعون الإسرائيليون» وأحيانا أخري «المؤرخون الجدد». المجموعة الأصلية كانت تشمل بني موريس من «جامعة بن جوريون» والإن بابي من «جامعة حيفا».. لقبونا بالمؤرخين الجدد لأننا تحدينا الرواية الصهيونية السائدة عن أسباب ومسار الصراع العربي-الإسرائيلي. وبتحديد أكثر، لقد تحدينا الخرافات العديدة التي أحاطت بولادة إسرائيل والحرب العربية الإسرائيلية الأولي عام 1948. بني موريس كان هو من اخترع مصطلح . «التدوين التاريخي الجديد»،The New Historiography ، ولكن بيني موريس، للأسف بعد الانتفاضة الثانية عام 2000، غير وعكس مساره الفكري ووجهة نظره بصورة راديكالية حول طبيعة هذا الصراع وانتكس عائدا للمربع الأول ليعتنق ويبشر من جديد بالرواية الصهيونية الرسمية السائدة بعد لجوء الفلسطينيين إلي العنف والهجمات الانتحارية حيث بدأ موريس يضع تقريبا كل اللوم بخصوص فشل التسوية السياسية علي الفلسطينيين. ولكن إيلان بابي وأنا، من جهة أخري، تمسكنا بقوة بإعتقادنا أن إسرائيل تتحمل المسئولية الكبري حول استمرار وتصاعد العنف. الكثير من القضايا المختلفة سأناقشها في فصول هذا الكتاب والتي رتبتها بطريقة زمنية حسب كتابتها وليس حسب أهميتها. ثلاث مسائل ولهذا، قد يفيد القارئ أن يعرف في بداية هذه المرحلة أن معظم ما سيأتي يتعلق بثلاث مسائل رئيسية. أولا: ولادة إسرائيل في مايو 1948، وثانيا: حرب الأيام الستة في يونيو 1967، وثالثا وأخيرا: اتفاقية أوسلو في سبتمبر 1993، كل واحدة من هذه المسائل هي موضوع نقاشات ساخنة ومشتعلة بين المفكرين وممثلي كل طرف.. النقاش الأول هو حول 1948، أعتقد شخصيا بيقين تام وبكل صراحة أن تكوين دولة إسرائيل تخلله ظلم كبير وفظيع للفلسطينيين ولكن، مع هذا، أنا أقبل تماما شرعية دولة إسرائيل ضمن حدود ما قبل حرب 1967!! خصومي يدعون أن هاتين الجملتين «متناقضتين» قائلين بان دولة أقيمت علي الظلم لا يمكن أن تكون شرعية!! ولكن، مع هذا، ردي هو التالي: كنتيجة لتكوين إسرائيل، تعرض الفلسطينيون للشتات ونزع ملكية أراضيهم. أكثر من حوالي 700 ألف فلسطيني وهو ما يعادل تقريبا نصف السكان العرب الأصليين داخل فلسطين أصبحوا لاجئين. كما تم «مسح» اسم فلسطين من الخريطة تماما ولذلك فإن هذه النتيجة لتكوين دولة إسرائيل خلقت ليس مجرد ظلم ولكن صدمة Trauma وطنية ضخمة وعميقة أو كارثة تم تسميتها «النكبة» بالعربية. ولكن اليهود أيضا عانوا من الظلم بل ربما أعظم ظلم في القرن 20 وهو الهولوكست. اليهود هم أناس أيضا، ومثل أي شعب آخر لديهم حق طبيعي للحصول علي حق «تقرير المصير». وبخصوص ظروف 1948، وبعد المعاناة الشنيعة التي وقعت علي اليهود في أوروبا من النازية، تبلورت فكرة عالمية تتبني وجود ضرورة أخلاقية لتكوين دولة لليهود لتعويضهم عن كارثة الهولوكوست وأصبحت هذه الضرورة الأخلاقية في حكم العرف وغير قابلة للمناورة والإنكار عالميا. وهكذا أصبح هناك رأي عالمي سائد بوجوب عمل تعويض لليهود عن الهولوكست بشرط أن يكون تعويضا ضخما وبحجم «تايتانيك» ولم يكون هناك شيء بحجم تايتانيك سوي فلسطين!!! كانت هذه خلفية قرار الأممالمتحدة رقم 181 بتاريخ 29 نوفمبر 1947 بتقسيم فلسطين إلي دولتين واحدة يهودية وواحدة عربية. قرار الأممالمتحدة كان بمثابة اعتراف دولي بشرعية الدولة اليهودية. صحيح أن العرب لم يكونوا مسئولين عن المعاملة البربرية لليهود في قلب أوروبا المسيحية. ولهذا فإن معظم العرب شعروا بأن إهداء جزء من فلسطين لليهود كان غير قانونيا! ولكن مع هذا، لا يمكن مطلقا اعتبار قرار صادر بالأغلبية من الجمعية العامة للأمم المتحدة غير قانوني. حسنا، قد يكون «ظالما» Unjust ولكنه ليس «غير قانوني» Illegal ، وذلك لأن «الظلم» injustice و«عدم القانونية» Illegality ليسا نفس الشيء. فما هو قانوني Legal ليس بالضرورة عادلا . Just بالإضافة إلي ذلك فإن إسرائيل وقعت معاهدات هدنة مع جميع جيرانها العرب في عام 1949 وهي: لبنان، سوريا، الأردن ومصر. هذه هي فقط الحدود الأصلية المعترف بها دوليا والتي كانت تحيط بإسرائيل. وهذه هي الحدود فقط التي اعترف بها شخصيا كحدود شرعية لإسرائيل . (تعليق المترجم: لا نتفق مع بعض العبارات الثعلبية في الفقرة السابقة من الناحية المنطقية لكونها تركز علي السياسة والقانون الدولي فقط وتلغي العامل الديني في هذا الصراع الوجودي. انتهي تعليق المترجم). المحطة الثانية في الصراع العربي الإسرائيلي كانت حرب يونيو 1967، كنتيجة لانتصارها المذهل في حرب الأيام الستة، احتلت إسرائيل مرتفعات الجولان من سوريا، والضفة الغربية من الأردن، وشبه جزيرة سيناء من مصر. وفي 22 نوفمبر 1967 أصدر مجلس الأمن القرار 242 وكان بمثابة تأكيد علي عدم القبول باحتلال أراضي عن طريق الحرب، وطلب القرار نفسه من إسرائيل التخلي عن الأراضي التي احتلتها في مقابل السلام مع جيرانها. وهكذا ولأول مرة في تاريخ إسرائيل، أصبح لدي الدولة اليهودية شيئا جوهريا تقدمه للعرب في مقابل أن يعترفوا بها وأن يحققوا السلام. ولكن للأسف إسرائيل فضلت الأرض علي السلام، وفي خلال شهور قليلة وبعد صمت المدافع بدأت إسرائيل في بناء مستعمرات مدنية في تلك الأراضي المحتلة في انتهاك واضح لمعاهدة جنيف الرابعة. وهكذا أصبحت إسرائيل حقا وبالفعل قوة استعمارية جديدة بالنسبة لي. وكما قلت مازلت أقبل شرعية دولة إسرائيل في حدود ما قبل 1967 ولكنني أرفض وأرفض تماما وكليةً وبدون مساومة المشروع الصهيوني الاستعماري وراء تلك الحدود. المسألة المحورية الثالثة في الصراع كانت معاهدة (أو اتفاقية) أوسلو التي وقعت في 13 سبتمبر 1993 في حديقة البيت الأبيض واشتهرت بالمصافحة التاريخية بين ياسر عرفات وإسحاق رابين. معاهدة أوسلو كانت أول اتفاق رسمي في التاريخ لفريقي الصراع العربي الإسرائيلي: إسرائيل وفلسطين. الكلمات الشجاعة «دولة فلسطينية» لم تظهر في نص المعاهدة ولكن التوقيع علي المعاهدة، مع هذا، أعلن رسميا عن 3 أمور سياسية خطيرة وغير مسبوقة. أولا: اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل كدولة شرعية وحقها في الوجود، وثانيا: اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني. وثالثا: اتفاق الطرفين علي حل اختلافاتهما الباقية بوسائل سلمية. مناظرة مع إدوارد سعيد بعد توقيع معاهدة أوسلو بقليل حدثت مناظرة فكرية سياسية بيني وبين صديقي الراحل البروفسور ادوارد سعيد الذي كان دائما صديقا قديما وعزيزا لي حيث جرت وقائعها علي صفحات مجلة «لندن رفيو أوف بوكس» بتاريخ 21 أكتوبر 1993. مقالي لم أعد طباعته في هذا الكتاب لأنه بصراحة لم يصمد أمام امتحان الزمن!! إدوارد ترافع ضد معاهدة أوسلو وأنا ترافعت معها. مقال ادوارد كان بعنوان «فرساي فلسطينية». مجادلة سعيد في ذلك المقال كانت أن معاهدة أوسلو كانت بمثابة أداة للاستسلام الفلسطيني علي حساب الحقوق الفلسطينية الوطنية الأصلية والعادلة لأنها لم تتضمن وعدا فضلا عن ضمان لقيام دولة فلسطينية مستقلة في نهاية فترة انتقالية. إدوارد وصف -بحق- معاهدة أوسلو كاتفافية بين طرف مهيمن قوي جدا وطرف منهك ضعيف جدا ولهذا عكست الخلل في توازن القوة بين الطرفين. اعترفت في مقالي السالف ومنذ البداية بعيوب معاهدة أوسلو ولكنني اعتبرتها خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح. ورغم كل عيوبها الواضحة لي كانت تبدو كانتصار سياسي عظيم في سياق هذا الصراع الوجودي العميق المستمر منذ 100 سنة. لقد اعتقدت وقتها بحسن نية أنها ستكون سببا في عملية متدرجة في اتجاه واحد غير قابل للانتكاس لخروج أو انسحاب إسرائيل تقريبا من جميع الأراضي العربية المحتلة (بعد حرب 1967) وهذا سينتج عنه لا محال انبثاق دولة فلسطينية مستقلة في نهاية الفترة الانتقالية. في السنوات التالية منذ 1993 سألت نفسي كثيرا: من كان علي صواب ومن كان علي خطأ؟ ومن كان صاحب التحليل الصحيح والدقيق؟ أنا أم سعيد؟؟ وعندما كانت الأمور تسير علي ما يرام، وعندما كان هناك تطور يحصل في واقع الأمر يتم إحرازه، وعندما وقعت معاهدة أوسلو الثانية علي سبيل المثال، اعتقدت أنني كنت مصيبا وإدوارد سعيد مخطئا. ولكن عندما تعطلت عملية السلام بسبب عودة العنف الحتمية ، اعتقدت إن إدوارد سعيد كان مصيبا وأنا كنت مخطئا. ولكن الآن وبعد 16 سنة من توقيع الاتفاقية، لا يوجد جدال أنني كنت مخطئا وإدوارد سعيد كان مصيبا (تعليق المترجم: تأملوا عظمة هذه الصراحة والحياد والموضوعية ونقد الذات التي يستحيل أن يهمس بها فضلا عن أن يفعلها مفكر عربي) في تحليله لطبيعة ونواقص معاهدة أوسلو، هذا الكتاب يتضمن عدد من المقالات عن خلفاء رابين ودورهم في تحطيم القاعدة السلمية التي أرساها رابين والتي كان ياسرعرفات يسميها دائما «سلام الشجعان». باختصار ومن وجهة نظري، إسحاق رابين كان رئيس الوزراء الوحيد في تاريخ إسرائيل الذي يملك الشجاعة، والإخلاص والعزيمة للمضي مع الفلسطينيين لتحقيق حل لهذا الصراع الدامي. شارون ضرب معاهدة أوسلو من ضمن الذين خربوا ودمروا معاهدة أوسلو يحتل إرييل شارون مكانة خاصة وهو كما هو معروف زعيم تكتل الليكود ورئيس وزراء إسرائيل من 2001 إلي 2006، جورج دبليو بوش اشتهر بوصف شارون ب «رجل السلام». ربما بحسب مفهوم ومعيار دبليو بوش للسلام يمكن اعتبار شارون كذلك!!! ولكن إذا استعملنا أي معيار آخر للسلام فإن شارون كان، رجل الحرب بلا منازع!! لقد كان شارون بطل حلول العنف وصاحب الرأي الواحد بكل امتياز الذي لا يقبل الجدال أو كما أحب أن أسميه «رامبو اليهودي». شارون كان يمثل بكل امتياز النمط الوحشي والاستعماري والرجعي والعنصري في المشروع الصهيوني. وعند التعامل مع العرب المحليين، اعتمدت الحركة الصهيونية بقوة ودائما علي القوة العسكرية وعلي خلق «حقائق علي الأرض» مثل تأسيس وبناء المستعمرات. المستوطنات اليهودية أفسدت أي مفاوضات ممكنة لمعالجة مستقبل الأراضي العربية المحتلة. حكومة شارون رفضت استئناف المفاوضات حول الحل النهائي للأراضي المحتلة كما جاء في معاهدة أوسلو وبدلا عن ذلك استمرت بشراسة في إنشاء وتوسيع المستوطنات ، وتحطيم المنازل الفلسطينية، وإنشاء جدار أمني عازل يمزق الضفة الغربية مما أدي إلي إضعاف السلطة الفلسطينية وتقسيم الضفة الغربية إلي مجموعة من الجيوب بدون اتصال بينها، باختصار كان الهدف الرئيسي والكلي لحكومة شارون من كل هذه الأفعال هو هدف سياسي قذر لمنع الفلسطينيين من الحصول علي أي وجود سياسي مستقل في فلسطين. تحت حكم إيهود أولمرت نائب شارون وخليفته وصلت ديبلوماسية «تجنب الديبلوماسية» هذه أي الاعتماد الوحيد علي القوة العسكرية إلي قمتها خاصة بعد الهجوم البربري علي غزة الذي بدأ في 27 ديسمبر 2008، البروباجندا الإسرائيلية الرسمية صورت الهجوم علي غزة أو كما سميت عسكريا «عملية صب الرصاص» كعملية مشروعة للدفاع عن النفس قصد منها وقف صواريخ حماس عن قصف المدنيين جنوب إسرائيل، ولكن الهدف الحقيقي من تلك العملية كان إخراج حماس من السلطة رغم أنها فازت في انتخابات حرة وعادلة في 2006، وتهدف أيضا إلي إرعاب وتخويف أهالي غزة لكي يستسلموا وتهدف للقضاء علي جميع نماذج المقاومة ولوقف الكفاح الفلسطيني من أجل دولة مستقلة. لقد كانت محاولة فجة من إسرائيل لفرض شروطها علي الفلسطينيين بدون أدني اعتبار أو احترام لنتائج الانتخابات الفلسطينية التي كانت ديمقراطية وعادلة وبدون احترام حقوقهم أو تطلعاتهم الشرعية. واحدة من أبشع مشاهد تلك الحرب المتوحشة كان القصف العشوائي للجيش الإسرائيلي أو «قوات الدفاع الإسرائيلية»علي المدنيين في غزة وكذلك المعاملة المتوحشة للمدنيين ومهاجمة مدارس تابعة للأمم المتحدة وتدمير مخازن الأطعمة. ولذلك تدرس المحكمة الجنائية الدولية بصورة مستعجلة وسرية حاليا إذا كانت السلطة الفلسطينية يمكن اعتبارها «دولة بدرجة كافية» لكي تقوم برفع قضية حول ارتكاب القوات الإسرائيلية جرائم حرب في الصراع الأخير، حتي بدون محاكمات جرائم حرب فإن الهجوم المتوحش علي سكان غزة نتج عنه تحطيم إدعاء إسرائيل الزائف بأنها تملك تفوقا أخلاقياMoral High Ground علي الفلسطينيين. الموت والدمار الذي أوقعته إسرائيل علي سكان غزة الأبرياء يطرح سؤالا مشروعا: كيف يمكن لشعب كان ضحية تعذيب لا يمكن وصفه أن يصبح المُعذب المتوحش لشعب آخر؟ كإسرائيلي، اعترف شخصيا أنني أجد هذا السؤال مؤلما جدا لي بصورة خاصة وأعترف أيضا بشجاعة أنني لم أجد إجابة شافية لهذا السؤال. البروفسور سالو بارون المؤرخ اليهودي الأمريكي الأشهر تحدث كثيرا عن النسخة الحزينة المبكية للتاريخ اليهودي أو التاريخ الذي يتكون من سلسلة لانهائية من المعاناة اليهودية بلغت ذروتها في الهولوكست!! «اليهود» يملكون حقا ادعاء عادلا ليكونوا أكثر أناس اضطهدوا في التاريخ . ولكن التاريخ «الإسرائيلي» مختلف عن التاريخ «اليهودي». فمنذ 1948 كان الإسرائيليون هم يد الجلاد التي تحمل السوط بوحشية ضد خصومهم، وانتصارهم في يونيو 1967 حولهم إلي وحوش عنيفة وظالمة. إدوارد سعيد كان لديه رأي ومنظور يختلف عن أكثرية الفلسطينيين بخصوص العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين ، واصفا الأخيرين - بحق- بأنهم «ضحايا الضحايا»، وفي وجهة نظره أن كلا الشعبين كانا «مجتمعات معاناة». وهذا ناتج بالضبط لأن اليهود عانوا كثيرا علي يد النازية. وبحسب، سعيد، عانوا بقسوة إلي درجة أنهم أصبحوا مهووسين بالأمن ليصبحوا في النهاية ظلمة. وجهة النظر هذه تساعد لفهم الدافع السيكولوجي خلف إسرائيل وقسوتها مع الفلسطينيين ولكن كل هذا لا يبرر تصرفات إسرائيل الوحشية معهم. (تعليق المترجم: يرجي ملاحظة قوله «فهم» وليس «تبرير» لسلوكهم الوحشي طبعا) السؤال المهم : هل هناك حل سلمي، غير عنيف لهذا الصراع الممتد من 100 سنة؟ يبدو لي شخصيا أن الحل العادل والمعقول هو تقسيم فلسطين. وبعبارة أخري «حل الدولتين». التوقيع علي معاهدة أوسلو كان يعني أن الفلسطينيين تخلوا عن الكفاح المسلح واختاروا «حل الدولتين». لقد تنازلوا عن مطالبتهم ب 78 % من فلسطين (تعليق المترجم: للأسف طبعا) التي كانت تحت الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولي علي أمل أنهم سيحصلون علي دولة مستقلة علي الجزء المتبقي الذي يشكل 22 % من المساحة الأصلية، والذي يتكون من الضفة الغربية وقطاع غزة. ولكن في العقد الأخير تحولت إسرائيل بعزم مستمر نحو اليمين مما نتج عنه تصلب في مواقفها من حل الصراع. تكتل الليكود لا يقبل مطلقا بمسألة وجود دولة فلسطينية مستقلة، والأحزاب الأكثر تشددا من الليكود تطالب بتطبيق سياسات عنصرية علنية مثل الطرد الجماعي للفلسطينيين كما أن مواقف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من اليمين واليسار لا تقود إلي حلول وسطي أو تسويات معقولة ومقبولة. التسوية العادلة الحقيقية لا يمكن مطلقا بل يستحيل فرضها من القوي علي الضعيف. التسوية الحقيقية أو الواقعية يمكن أن تنتج فقط عن طريق الاحترام والمساواة المتبادلة. بالرغم من التدهور الجدي والمخيف في العلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين في العقد الأخير، أرفض تماما فقد الأمل. حاليا الإسرائيليون والفلسطينيون يؤدون «رقصة موت مرعبة». ولكن في المدي البعيد، الإسرائيليون قد يدركون خطأ سياساتهم وبعبارة أخري الإسرائيليون قد يستنتجون في النهاية أنه لا يوجد حل «عسكري» لصراع في طبيعته «سياسية» في الأساس. يوما ما قد يتوقفون عن خداع أنفسهم بأن أمن دولتهم يمكن الحفاظ عليه فقط عبر استعمال القوة المتوحشة. بالنسبة لي كمؤرخ أحصل علي بعض الراحة والطمأنينة من معرفتي التاريخية العميقة بأن الأمم، مثل الأشخاص، سوف تفكر بعقلانية عندما يستنفذون تماما استعمال كل الطرق الأخري. آفي شلايم/ أكسفورد/ أبريل 2009 حمد بن عبدالعزيز العيسي