هذا عام الحزن لليسار المصري.. فما أن يغلق سرادقات العزاء في أحد رموزه وقياداته حتي يعيد إقامتها لتلقي العزاء في رمز آخر. والعجيب أن الموت اختار معظم أجيال اليسار المصري لينتقي من كل جيل زهرة يقتطفها ويضمها إلي كوكبة الخالدين. فمن جيل الثلاثينيات من القرن الماضي رحل يوسف درويش عن ستة وتسعين عاما، ومن جيل الأربعينيات رحل محمد سيد أحمد ونبيل الهلالي ومن جيل السبعينيات رحل أحمد عبدالله رزة. ولم تكن فاجعة اليسار في هؤلاء الأربعة فقط، بل إن هذا الرباعي ضم رموزا تضم تحت أجنحتها أعدادا من الجنود المجهولين الذين رحلوا في صمت بعد أن دفعوا ضريبة باهظة للنضال من أجل القضية الوطنية والقضية الاجتماعية والمسألة الديمقراطية، وقضوا أحلي سنوات العمر في السجون والمعتقلات، بمحاكمة لا تتوافر فيها أركان العدالة حينا وبدون محاكمة في معظم الأحيان، وتعرضوا للتعذيب الوحشي والحرمان من أبسط حقوق الإنسان، وتحملوا ما لا طاقة لبشر بتحمل عشر معشاره من عنت وأذي مادي ومعنوي. والمؤلم بالنسبة لليسار، فوق خسارته لهذه الرباعية البالغة التميز من رموزه وقياداته، أن حرمانه من هؤلاء القادة/ الرموز يأتي في وقت يعاني فيه من هزيمة قاسية عبرت عنها نتائج انتخابات برلمان 2005. فرغم ما انطوت عليه هذه الانتخابات من انتهاكات وتجاوزات، ورغم العزوف شبه الجماعي من الأغلبية الساحقة من المصريين عن الذهاب إلي صناديق الاقتراع، فإن النتيجة التي حصل عليها مرشحو اليسار، بل وجميع مرشحي القوي السياسية غير الدينية، تمثل تراجعا مهينا ومشينا لا يتسق مع تاريخ القوي الوطنية والديمقراطية ولا يتسق مع التضحيات التي بذلها اليساريون المصريون منذ عشرينيات القرن الماضي. وفي هذا الوقت الذي يحتاج فيه اليسار إلي مراجعة النفس، ونقد الذات، وإعادة الحسابات، وإبداع أدبيات وسياسات وأفكار وتكتيكات جديدة تتلافي أخطاء وخطايا الماضي وتنسجم مع مستجدات الحاضر وتحديات المستقبل، وبالذات متطلبات ثورة المعلومات واستحقاقات عصر العولمة بوجهيها،..، في هذا الوقت فقد اليسار أبرز رموزه وأعظم قياداته. وهذه ليست خسارة لليسار فحسب، بل هي خسارة للحركة الوطنية والديمقراطية عموما، لأن اليسار جزء لا يتجزأ من هذه الحركة الوطنية والديمقراطية، بل إنه كان القلب النابض والعقل المفكر لهذه الحركة في بعض الأوقات. ومن المستحيل أن تنهض الحركة الوطنية والديمقراطية من كبوتها دون استعادة اليسار لمواقعه الجماهيرية ودوره الفكري والسياسي. ورغم هذه الخسارة الفادحة التي ألمت باليسار، فإنه مطالب بأن يسمو فوق جراحه وآلامه، ولن يكون ذلك بالاكتفاء بوضع باقات الورود علي قبور قادته الراحلين أو إقامة سرادقات العزاء لهم وإلقاء قصائد التأبين والرثاء. هم يستحقون ذلك بكل تأكيد.. لكنهم يستحقون أيضا ما هو أكثر. نعني أن من حقهم علينا أن نستخلص نقاط قوتهم التي جعلتهم يتبوأون مكانة الرمز. كل في جيله، وأن نقوم بإحياء القيم الكامنة خلف نقاط القوة هذه، والاستفادة منها في مشروع إعادة الاعتبار إلي السياسة المطروح علي جدول الأعمال. وفي عجالة شديدة جدا.. نحاول أن نلفت النظر إلي أن الكنز الذي تركه يوسف درويش يتعلق بالدرجة الأولي بالتحليل العاقل للدولة الإسرائيلية، الذي يجعلنا نتمسك بمناهضة الصهيونية دون الانزلاق إلي خطيئة معاداة اليهودية.. أو النظر إلي الصراع العربي الإسرائيلي علي أنه صراع ديني.. أو حتي صراع حضارات. ومأثرة محمد سيد أحمد هي التعامل مع الماركسية كمنهج، وليس كمذهب، بما يستتبعه ذلك من ضرورة التخلص من الدوجماطبقية، وجميع أشكال الجمود العقائدي. ومأثرة أحمد عبدالله رزة.. هي محاولة وضع كل المقولات الثورية موضع التطبيق العملي في أحضان الناس الحقيقيين، والأحياء الشعبية، بعيدا عن مملكة الكلام. أما نبيل الهلالي.. فمآثره أكثر من أن تعد أو تحصي، لكن جوهرته الخالدة هي ادخاله الأخلاق والسلوك الثوري، السوي، الصادق، المتواضع، ساحة السياسة المقترنة دائما أبدا، بالقذارة والمناورة والمداورة واللعب بالبيضة والحجر. علي عكس ذلك جسد نبيل الهلالي نموذجا مغايرا للثائر الذي يفعل ما يقول، والذي ترك ثروة والده الباشا رئيس وزراء مصر للفلاحين الغلابة، وترك قصره المنيف ليعيش في حي روض الفرج الشعبي، والذي ترجم الحديث عن الحرية والديمقراطية إلي مرافعة رائعة حتي عن خصومه الفكريين والسياسيين في ساحات المحاكم. وفي اعتقادي.. أن هذه القيم الأساسية التي دافع عنها رموز اليسار الأربعة العظام الراحلون يمكن أن تكون العمود الفقري لمشروع إعادة الاعتبار إلي اليسار.. والأخلاق إلي السياسة.. والمصداقية للشعارات.. وعودة الروح إلي الوطن.