لا أحب شهر يونيو فقدومه يحك الملح علي جرحي الذي لم يندمل كبقية أبناء جيلي مذكرا بهزيمة يونيو 1967 القاسية أو حرب الأيام الستة والتي لم تكن مجرد هزيمة عسكرية لجيش مصر ولا هزيمة سياسية لنظام عبد الناصر ولكن الأهم هزيمة لأحلامنا نحن شباب ذلك الوقت، ومن وقتها لا أشعر بالراحة مع شهر يونيو اللهم في يوم وحيد هو يوم مولد ابنتي التي جاءت للحياة متعجلة بنحو شهرين. لم يكن يونيو هذا العام مختلفا عن السنوات السابقة، نفس الغصة ونفس كسرة النفس التي ضاعف منها تعدي الأمن علي رجال القضاء ومنع انعقاد الجمعية العمومية للمهندسين وهتك عرض الشباب المدافعين عن الديمقراطية، وفي مساء يوم 6 يونيو أخذت زوجتي وبنتي وابني إلي النادي للهروب من الحر الشديد وانطلق الأولاد وبقيت مع زوجتي نثرثر عن الأسرة والمهنة والوطن، فجأة رن تليفوني المحمول وأتاني صوت حزين وبعبارات مقتضبة أخبرني بموت أحمد عبد الله. لملمت الأولاد وأخذتهم إلي البيت ثم انطلقت وصفاء زوجتي إلي بيت أحمد عبد الله في الجيزة. أسفل العمارة التي يسكن فيها أحمد وجدت أعداداً غفيرة من أصدقائه وزملائه وتلاميذه. كان عمر مرسي يبكي وسألته ما الذي حدث أخبرني أنه وأحمد عبد الله وبعض الأصدقاء ذهبوا في رحلة في اليوم السابق (5 يونيو) لأنهم كانوا يشعرون بضيق وعادوا في حدود السابعة مساء وكان المفروض أن يذهب للغداء عند والدته ولكنه لم يذهب وحاولت الاتصال به ولكنه لم يرد فأعطت المفتاح لإحدي قريباتهم التي وجدت أحمد علي السرير ولم يرد عليها فظنته مغشي عليه فاتصلت بصديقه وجاره الدكتور بهاء عواض الذي حضر خلال دقائق وبمجرد دخوله الغرفة أدرك بعينه المدربة أن سهم الله قد نفذ، جريت إلي بهاء الذي كان في حالة تأثر شديدة وسألته ما الذي حدث قال لي أنه بفحص الجثة يعتقد أن الوفاة قد حدثت أثناء نومه في حدود الساعة السادسة من صباح اليوم. يا الله يا أحمد يا عبد الله في ذكري حرب الأيام الستة تغادرنا في الساعة السادسة من صباح اليوم السادس من الشهر السادس من العام السادس للألفية الثالثة، وكأنها جملة بليغة من خطبة لك في الجامعة أو الشارع وقد كنت ملكا من ملوك الخطابة والبلاغة اللغوية. انطلقت صاعدا السلالم إلي شقته ولكن لم استطع الدخول عليه لم أتحمل فكرة أن أراه ميتا وعلمت أنه يرقد في غرفة بشري وعلي سريرها وكأنه أراد أن تكون آخر أنفاس تدخل إلي صدره أنفاس محملة بعبق بشري التي كانت كل شيء بالنسبة له. شريط طويل من الذكريات منذ تعرفت علي أحمد عبد الله في أتون الحركة الطلابية عامي 1972 و1973 وقد كان أحمد هو رئيسها بلا منازع وتم انتخابه رئيسا للجنة الوطنية العليا لطلاب جامعة القاهرة واستطاع بشخصيته الكاريزمية الطاغية أن يعبر عن مواقف الطلاب التي كانت تربط بين تحرير الأرض وتحرير المواطن، بين الوطنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. كان أحمد عصيا علي التنظيم فالحرية هي المحور الرئيسي لتفكيره وممارساته ولهذا فكما قال صديقنا المشترك محمد سيد سعيد في رثائه (الأهرام 12 يونيو 2006) أنه "امتلك فعلا موهبة الزعامة، وكان أفضل الخطباء السياسيين الذين سمعت لهم، وكان مناضلا من حيث الروح، ولكنه لم يكن ينشط في السياسة بانتظام ولا علي أي نحو منظم، بل كان يتعامل معها بطريقة الفنان، الذي يندفع إليها في انبثاقات مفاجئة وينفر منها معظم الوقت، ويرفض السعي إليها كما يفعل المحترفون أو النشطاء التقليديون"، وكان يعشق الحرية لدرجة أنه رحل وهو بلا عمل ثابت في أي مؤسسة علمية عامة أو خاصة في مصر التي ظل يعشقها ويعمل من أجل غالبية أبنائها حتي وافته المنية لأن الثمن الذي كان يطلب منه دائما كان حريته. عدت للبيت حزينا مكلوماً بعد أن اتفقنا علي إجراءات الدفن والجنازة والعزاء ونمت نوما مضطربا تلاحقني صورته في آخر مرة التقينا فيها، وفي الصباح الباكر استيقظت وصفاء وارتدينا ملابسنا للذهاب إلي جنازة أحمد عبد الله وبينما نتجه للباب دق جرس التليفون رددت بسرعة جاءني صوت مضطرب وجزع "البقية في حياتك عم يوسف درويش مات من شوية".. أخبرت صفاء ونظر كل منا للآخر وفي نفس واحد قلنا "ها نروح لنولة" نولة هي الابنة الوحيدة ليوسف درويش وله ابن أكبر منها مجاهد يقيم في سويسرا منذ فترة طويلة ولا يوجد لهما باستثناء ابنتها بسمة أي أقارب في مصر، لا أذكر بالضبط متي تعرفت علي يوسف درويش ولكنني ارتبطت به من وقتها وكنت اعتبره صديقي رغم فارق السن بيننا الذي يصل إلي أربعين عاما، فقد كان رحمه الله شابا في الخامسة والتسعين حين رحل عن عالمنا، وأنا أعني شابا في تفكيره وفي قدرته علي الاندهاش وفي عمله الدءوب حتي آخر لحظة في حياته. لقد كان عم يوسف كما كنت أناديه أفضل مستمع عرفته وكان يبحث في أقوال محدثيه عن فكرة جديدة أو رأي جديد، وكان لا يستنكف وهو المحامي والمنظم والمنظر الذي قارب عمره علي المائة أن يستمع لرأي لشاب أو شابة في عمر أحفاده بنفس الاهتمام الذي كان يمكن أن يستمع به لفيلسوف كبير أو سياسي محنك. ولد يوسف درويش لعائلة يهودية ثرية فقد كان أبوه صائغا ولكنه اختار الانحياز للشعب المصري وللكادحين منه وفي فترة انحسار الحركة الشيوعية المصرية بعد أن حل سعد زغلول أول حزب اشتراكي علني في مصر عام 1924. تعرف يوسف درويش علي الفكر الماركسي في الثلاثينيات من القرن الماضي وعمل في حلقات صغيرة لنشر الفكر الاشتراكي في ظروف بالغة الصعوبة وفي الأربعينيات نشط في المنظمات الماركسية التي تشكلت وخاض نضالا لا هوادة فيه ضد الاستعمار البريطاني وأعوانه من المصريين وضد الحركة الصهيونية التي كانت نشطة جدا في أوساط اليهود في مصر وفي عام 1947 أعلن إسلامه وإذا كان يوسف درويش كأحمد عبد الله عاشقا للحرية فإنه كان علي عكس أحمد منظم من الطراز الأول وظل حتي وفاته مهتما بقضية تنظيم المصريين في النقابات والجمعيات الأهلية والأحزاب السياسية. مات يوسف درويش والموت علينا حق لكنها كانت رغم كبر سنه مفاجأة غير متوقعة بالنسبة لي وجاءت في نفس الفترة التي اختطف فيها الموت أحمد عبد الله، ذهبنا صفاء وأنا إلي بيت يوسف درويش وفي ذهننا أننا أهله ويجب أن نكون بجوار نولة خاصة أن الكثيرين ممن يعرفونها سيكونون في جنازة أحمد عبد الله ولا يمكن أن نتركها وحدها فنحن أهلها وأهل هذا المصري العظيم الذي ذاب في عشق مصر. دخلت إلي شقة عم يوسف ووجدتها مكتظة بالمصريين من كل لون مسلمين ومسيحيين وشبابا وكهولا ورجالا ونساء مهنيين وعمالاً، كلهم جاءوا بنفس الفكرة لأنهم أهل يوسف درويش. أنهينا الإجراءات وذهبنا بالجثمان إلي جامع عمر مكرم للصلاة عليه بعد صلاة العصر وانطلقت سيارات المشيعين إلي المقابر حيث أنهينا إجراءات الدفن والدعاء ووقف طابور طويل من المشيعين يستقبلون العزاء في قريبهم ابن مصر البار يوسف درويش، انتهي استقبال العزاء وظللنا واقفين لا نريد أن نغادر حتي جاء صوت كمال عباس "يللا يا جماعة كلنا أهل ميت". بدأنا نتحرك جماعات وأفراداً نلملم أحزاننا ولحظتها وددت لو كنت مخرجا سينمائيا لأصور هذا المشهد لمصريين من مختلف الأطياف والأديان والأعمار جاءوا لأنهم "أهل ميت" ووجدت صوت طفل مندهش ينبعث من أعماقي ويهتف "يخرب بيت جمالك يا مصر"