لا يوجد سياسي مهما اختلفت منابع فكره أو عقيدته السياسية أو الايدلوجية إلا وتوحد في مشاعره مع الحركة الوطنية المصرية احتراما وتقديرا لمحامي الشعب المحامي أحمد نبيل الهلالي، الذي وافته المنية منذ أيام بعد صراع مع المرض دخل علي إثره احد مستشفيات القاهرة وتوفي به. والذين يعرفون الرجل قدروا حالة الحزن المكتوم التي يعانيها منذ غادرته شريكة حياته ونضاله زوجته فاطمة زكي واجتهد في أن يبدي قدرا من التماسك والتواصل مع قضايا وطنه التي انشغل بها حينا من الدهر، دفعت به تلك الحالة إلي الاكتئاب والمرض والاصرار علي اللحاق بها، وحالات معدودة تلك التي يلحق المحب بمحبوبته سواء أكانت زوجة أو ابنة منها لحاق الهلالي بزوجته ورفيقة كفاحه. نشأ الهلالي في بيت باشا من باشوات مصر في عهدها الملكي، فوالده أحمد نجيب باشا رئيس وزراء مصر الأسبق فاجتمعت في نشأته البرجوازيه والسلطة، والعجيب أنه تمرد عليهما معا الثروة والسلطة، وتبني مباديء الشيوعية اللينينية وأخلص لها إخلاصا قلما يخلصه صاحب فكرة لفكرته، في وقت كثرت فيه التقلبات الفكرية والانقلابات السياسية، وتحول بعض اليسار من الدفاع عن فكرتهم إلي حيث هجر الهلالي مواطن الثروة والسلطة، واستمر معه ثلة قليلة من الوطنيين الأطهار واحتضن بعضا من تلامذته الشباب الذين شبوا علي أفكاره ومدرسته ولكن البون شاسع جدا بين أداء الأستاذ ومن خلفه في دربه. عايشت الهلالي دهرا، استمتعت بمرافعته عن جيلنا بعد اغتيال الرئيس السادات، وكانت مرافعته من أهم المرافعات التي تصدت لكل ما حملته القضية من أدلة، وكنت وقتها متهما في قضية الانتماء لتنظيم الجهاد، وحملت للرجل كثيرا من مشاعر الامتنان والفضل، وقدر لي القدر أن أعايشه واتتلمذ علي يديه تلميذا في هيئة الدفاع عن المتهمين في قضايا الجماعات الإسلامية، وميزة الهلالي أنه كان جادا في أدائه لا يهتم بنوازع الإعلام ولم يوجه مرافعاته توجيها دعائيا وإعلاميا، بل كان مخلصا حتي في دفاعه عن أولئك الذين اختلفوا معه فكرا أو نهجا، وكان يهتم بالأوراق وما تحمله من أدلة ساعيا لتفنيدها مستخرجا دقائق صغيرة لا نفطن إليها فإذا هي معاول هدم لكل ما شيدته أجهزة الأمن أو الادعاء من أدلة، مازلت أذكر صولاته وجولاته في قضية اغتيال الدكتور رفعت المحجوب فكان أكثر من واظب علي حضور جلساته علي طول امتداد انعقادها لعامين، مع ماحملته من غموض شغل الرأي العام آنذاك، وكان منكبا علي أوراق القضية باحثا منقبا عن ثغراتها وكنا نراها مغلقة، حتي خرج ببحث قانوني رائع ساعد المحكمة معه في القضاء ببراءة المتهمين المعترفين، وأذكر مساجلة لطيفة دارت بينه وبين المتهم الأول في تلك القضية ممدوح علي يوسف وكان حاضرا أيضا صفوت عبد الغني وثلة من المتهمين يجادلونه في قبول بعض الأموال الرمزية لقاء تفرغه للقضية، لكنه كعادته كان يرفض تلقي أي أموال في القضايا السياسية، حتي قال له يوسف لا أجد ما أكافئك به إلا أن أدعو الله لك بالهداية فداعبه الهلالي " ربنا يهدينا جميعا. لقد واجه الهلالي كل معاركه ضد السلطة والبروجوازية والظلم بابتسامة عريضة وكلمة واضحة رقيقة، لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا فاجرا في خصومته مع أحد، كان اشتراكيا لكنه لم يمتنع عن الاستجابة في نصرة الاسلاميين في كل قضاياهم بلا استثناء، دافع عن حريتهم دون متاجرة، كثيرون يربطون بين مشاركتهم في قضايا الرأي بمواءمات سياسية. لكن الهلالي لم يتبدل، لم تبدله المحن علي كثرة ما تعرض له، لم تغيره السجون علي كثرة ما تعرض للسجن والاعتقال والمحاكمة، لم يفجر في خصومة علي كثرة ما تعرض للغدر. والهلالي الذي كانت حياته حافلة بالمفارقات من حوله دون أن يتوقف عندها كثيرا، كان مشهد ودائعه أيضا حافلا بالمفارقات، فالرجل الذي أمضي حياته شيوعيا مدافعا عن نظريته حتي بعد سقوطها في منابعها الأصيلة، حتي انه جادل عن شيوعيته بأن زوال الدولة لا يعني أبدا زوال الفكرة، وإذا سقطت دولة الإسلام فإن هذا لا يعني زواله، هكذا كان يجادل عن اعتقاداته السياسية والايدلوجية، لكن اللافت أن أسرته اختارت خروج جنازته من مسجد عمر مكرم !! حيث أقيمت صلاة الجنازة وترحم عليه مئات المسلمين الحاضرين، ولم يكد المصلون ينتهون من صلاتهم عليه، ولم ينته الداعون من تجفيف دموعهم بعد دعواتهم له بالرحمة والجنة، حتي خرج النعش محمولا علي بعض تلامذته من المحامين حتي دوت هتافات تلامذته اليساريين " عاش كفاح الشيوعيين " في إشارة إلي عقيدة الهلالي ومدرسته، كان محبوه وهم يصلون عليه صلاة الجنازة مخلصين في دعواتهم للرجل الذي أحبوه كثيرا متمنين له الرحمة والمغفرة، وكان تلامذته في اليسار مخلصين في هتافاتهم بالمباديء التي لقنها لهم ومات عليها، وهكذا مضي النعش في مساره من عمر مكرم إلي مدافن 6 اكتوبر، وهناك حيث واري الثري ارتفعت دعوات المسلمين الذين أحبوه وتعانقت مع هتافات اليساريين الذين أخلصوا له. كنت افضل شخصيا أن تخرج جنازة أستاذنا الراهب القديس أحمد نبيل الهلالي من نقابة المحامين التي أحبها وبادلته الحب حبا ومودة وتقديرا، عرفانا بفضله وقيمته باعتباره ابنا من أبنائها المخلصين متواصلا مع طابور من العظماء خرجوا منها عبد العزيز الشوربجي ومصطفي البرادعي وأحمد الخواجة، لكن أسرته اختارت أن يكون خروجه من مسجد عمر مكرم، لعل في اختيارها معني ارادت لفت الانتباه إليه فهي التي لاصقته وعايشته في مرض موته . وفي كل الأحوال يستحق الهلالي كل هذا الحب الذي بدا في اختلاف هويات الذين ساروا خلفه وحضروا عزاءه وإنا لله وإنا إليه راجعون .