في الوقت الذي تلوح فيه نذر الحرب الأهلية في الأراضي الفلسطينية بعد تصاعد الاشتباكات المسلحة بين حركتي فتح وحماس، تبدو السلطة الفلسطينية الفعلية "ذات رأسين" أحدهما يمثل الرئيس محمود عباس (أبومازن)، والآخر تمثله الحكومة التي شكلتها حماس. فهل ستزداد الأمور تفاقماً بحيث يقطع أحد الرأسين الرأس الآخر ويتخلص منه؟ أم سيتوصل العقلاء من الجانبين إلي تسوية للأزمة وحقن الدم الفلسطيني؟ وأين الشعب الفلسطيني الجائع المحاصر من هذا الصراع المرير بين الحكومة والسلطة؟ فقد أكد الرئيس الفلسطيني محمود عباس ان "الحرب الاهلية" الفلسطينية خط أحمر لا يجرؤ أحد علي تجاوزه". وقال عباس في تصريحات للصحافيين علي هامش المنتدي الاقتصادي العالمي في شرم الشيخ "ان الحرب الاهلية امنية لن نحققها لاحد". واضاف ان "الحرب الاهلية خط احمر لا يمكن ان يتجرأ احد علي تجاوزه من اي جهة". وتابع انه "حتي لو حصلت اشتباكات علي الارض لكن الحرب الاهلية محرمة". وشهدت الاراضي الفلسطينية خلال الاسبوعين الاخيرين توترا شديدا ومواجهات مسلحة بين اعضاء من حركتي فتح وحماس. ولأن عباس قد قال في حديث بثته محطة "يورونيوز" ان السلطة الفلسطينية "لها رأس واحد"، فيما تتواصل المواجهات في غزة بين عناصر من حركتي فتح وحماس التي فازت في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في يناير الماضي. ودعا عباس المجتمع الدولي الي "اعطاء حماس مزيدا من الوقت" والاتحاد الاوروبي الي ايجاد آلية جديدة تؤمن ايصال المساعدات الي الفلسطينيين "في اسرع وقت". وأوقف الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة مساعداتهما المالية للسلطة الفلسطينية اثر تشكيل حركة حماس الحكومة وخصوصا انهما يعتبرانها "منظمة ارهابية"، ما جعل هذه السلطة علي حافة الافلاس. وقال عباس للمحطة التلفزيونية الاوروبية ان "السلطة الفلسطينية لها رأس واحد بحسب القانون ونحرص علي ان تظل الامور علي هذا النحو". واضاف ان "الرئيس هو رئيس الدولة استنادا الي القانون وليس هناك راسان، ثمة رئيس تسانده حكومة ورئيس حكومة". واستبعد عباس امكان اعلان حالة الطوارئ قريبا وقال "لسنا في وارد القيام بذلك حاليا". وشدد علي "اننا وضعنا كل الاجهزة الامنية في تصرف وزير الداخلية ليتمكن من ارساء النظام". ورفض رئيس السلطة الفلسطينية قرار الحكومة الفلسطينية بقيادة حماس انشاء قوة امنية خاصة من الفصائل الفلسطينية المسلحة. وكان اعلان الحكومة الفلسطينية نيتها تشكيل قوة امنية خاصة من الفصائل الفلسطينية المسلحة صعد التوتر بين مؤسستي الرئاسة والحكومة الفلسطينية خصوصا في مجال تنازع الصلاحيات. ويسود القلق والترقب في قطاع غزة بعد نشر القوة الامنية الخاصة التي شكلها وزير الداخلية وتعزيز قوات الامن والشرطة النظامية في الطرقات والشوارع الرئيسية في القطاع تنفيذا لتعليمات الرئيس الفلسطيني محمود عباس، فيما اعلن رئيس الوزراء اسماعيل هنية ان القوة الامنية تشكلت بالاتفاق مع عباس. وقال مسئول في الرئاسة الفلسطينية ان تشكيل القوة الامنية ونشرها في الشوارع الرئيسية "مخالف للقانون، كلنا مع امن المواطن وضبط الامور، لكن ليس بهذه الطريقة التي ستؤدي الي حرب اهلية". من جهته قال يوسف الزهار المسئول في القوة الخاصة "اليوم الاول للقوة الامنية الخاصة مر بسلام ودون اي احتكاكات او صدامات، وشعبنا موحد، لكن فئة قليلة من المتنفذين يحاولون ان يوقعوا الصدام بيننا ولكن الشرطة وشعبنا أوعي من ذلك وسنكون يدا واحدة ضد الفساد والمفسدين". وأضاف الزهار الذي احيط بعدد من مرافقيه المسلحين "نحن قوة تتبع وزير الداخلية والاجهزة الامنية تعمل في الشارع وسنحاول ان نتعاون معها بقدر ما نستطيع". ولوحظ ان عددا من افراد القوة الخاصة المسلحين يقفون الي جانب افراد الشرطة الذين تعزز تواجدهم علي المفترقات الرئيسية في مدن قطاع غزة. وعبر عدد من الفلسطينيين عن قلقهم وخشيتهم من الصدامات بين افراد القوة الخاصة وعناصر اجهزة الامن. وقال وائل عبد الكريم "الوضع مقلق لسنا بحاجة الي مزيد من التوتر والخوف نريد ان يستقر الوضع الامني وتطبق الاجهزة الرسمية الامنية المكلفة القانون كي نعيش بهدوء مثل شعوب المنطقة". وقال ابو امين الضابط في الشرطة الفلسطينية ان "اي احتكاك قد يؤدي الي مواجهة لن تحمد عقباها"، مضيفا ان "المشكلة تكمن في الخلاف بين الحكومة والرئاسة ويجب حله كي لا نكون ضحية الموقف". واعترض عباس علي تشكيل القوة الامنية وقرر تعزيز القوات الامنية النظامية التي طلب منها الانتشار في كافة المناطق حتي لا يترك الشارع الفلسطيني بين يدي حماس. لكن هنية قال "القوة هي سند للامن الوطني وللشرطة ولكل الاجهزة وابناء شعبنا وهي تشكلت بحكم القانون والدستور وبالاتفاق مع الاخ الرئيس (ابو مازن)". وأكد مسئول في الرئاسة ان مرسوم الرئيس بالغاء القوة الامنية "ما زال ساريا لانه لا يجوز تشكيل قوة من دون موافقة الرئيس". وقال هنية ان القوة "ليست موجهة ضد احد وستكون في اطار الاجهزة الامنية والشرطة لكي تقوم بواجبها ولاعادة الاعتبار للامن والشرطة، انتم الان تقومون بواجب حماية الوطن والمواطن والامن". وكان هنية يلقي كلمة امام قرابة اربعمائة من افراد الشرطة والامن جاءوا الي مكتبه في غزة للتضامن مع الحكومة وتأييد القوة الامنية الخاصة. ورفع المتظاهرون الذين انطلقوا من امام مقر المجلس التشريعي في المدينة، لافتات كتب عليها "لا للتنازل نعم للتمسك بالثوابت"، وعبروا عن تأييدهم للقوة التي شكلتها وزارة الداخلية. وقال احد افراد الشرطة في كلمة امام المتظاهرين "نثمن قرار وزير الداخلية بانشاء القوة الامنية وسنحمي هذه القوة". في المقابل، شارك حوالي ثلاثة آلاف من افراد اجهزة الامن الفلسطينية في تظاهرة جابت شوارع مدينة غزة دعما للرئيس عباس ورفضا للقوة الامنية الخاصة. وتجمع المتظاهرون من افراد الامن الوقائي والوطني والقوة ال17 المكلفة بحماية عباس امام مقر قيادة الامن الوقائي غرب مدينة غزة وهم يرددون "كلنا ابو مازن"، "نعم نعم للقانون، لا لا للميليشيات المسلحة". وجابت شوارع غزة دوريات امنية تنفيذا لاوامر الرئيس عباس بحسب مسئول امني. وكان وزير الداخلية سعيد صيام قد أعلن منذ أسبوع بدء عمل القوة الخاصة لمساندة الشرطة والمكونة من عناصر من الاجنحة العسكرية خصوصا كتائب القسام الجناح العسكري لحماس والتي شكلها رغم قرار الرئيس عباس بالغائها. واعتبرت حركة فتح بدء عمل القوة "تصعيدا خطيرا باتجاه الفتنة". وتأتي هذه التطورات في وقت اتفقت فيه حركتا حماس وفتح علي انهاء المظاهر المسلحة خلال التظاهرات والمسيرات. ويري خبراء ومحللون أن ما كانت تخشاه "حماس" هو "الفشل الأمني" لحكومتها، أي فشلها في درء المخاطر الداخلية عن الأمن الشخصي للمواطن الفلسطيني، الذي اشتدت حاجته إلي قوة أمنية تمنع الاعتداء عليه وعلي أمواله الثابتة والمنقولة. وفي اشتداد هذه الحاجة قررت حكومة "حماس" أن تستثمر جهدا سياسيا وأمنيا كبيرا لعلها تثبت للمواطن الفلسطيني أنها نجحت أمنيا، وبهذا المعني للأمن، حيث فشلت، أو عجزت، القوي والأجهزة الأمنية الخاضعة لسلطة الرئاسة الفلسطينية، وحركة "فتح". وبهذا كان في الإمكان أن ترد "حماس" علي من ينتقدها لتوقفها عن المقاومة العسكرية قائلة: لقد نجحنا في توطيد الأمن الداخلي، وفي مكافحة الفساد، وفي تحسين عيش المواطن الفلسطيني، وفي إنجاز "التحرير الثاني"، الذي تصفه إسرائيل بأنه تنفيذ لخطة اولمرت في الضفة الغربية، وفي أن نقيم الدليل علي أن كل تلك "الإنجازات" ممكنة حتي من غير تنازل عن "الثوابت". كان الخيار الذي أخذت به "حماس" من غير أن تعلن ذلك رسميا هو "لا مقاومة ولا مفاوضات"، معتقدة أن الأخذ به سيعود عليها، وعلي الفلسطينيين، بالنفع والفائدة. ولكن "الخيار المضاد"، وهو خيار "لا مال ولا أمن"، سرعان ما أخذ يُظهر خيار "حماس" ذاك علي أنه الطريق إلي كارثة فلسطينية إنسانية واقتصادية وسياسية. ولا شك في أن تحول الخيارين إلي خيار واحد هو خيار "لا مقاومة، ولا مفاوضات.. لا مال ولا أمن" قد جعل "حماس"، حركة وحكومة، في أزمة يصعب تخطيها إلا بطرائق وأساليب ووسائل تلحق ضررا كبيرا بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني. من ذلك، أي من تلك الطرائق والأساليب والوسائل، كان قرار وزير الداخلية في حكومة "حماس" نشر تلك القوة الأمنية التي أنشأها، والتي وصفها بأنها قوة مؤازرة ومساندة للشرطة وللقوي الأمنية الرسمية في عملها، وكان اضطرار "حماس" إلي تهريب نحو مليون دولار إلي قطاع غزة عبر معبر رفح بحقيبة المتحدث باسم الحركة. وفي قرار وزير داخليتها أرادت حكومة "حماس" أن تقول للفلسطينيين إن هناك من يسعي في سبيل جعل الفلسطينيين ينظرون إليها علي أنها فاشلة حتي في منع الاعتداء علي الأمن الشخصي للمواطن الفلسطيني، وإن من يعترض علي نشر تلك القوة الأمنية له مصلحة فئوية ضيقة في اتخاذ "الانهيار الأمني" وسيلة لتأليب الفلسطينيين علي حكومة "حماس". وفي محاولة التهريب أرادت أن تقول إنها لن تألو جهدا في سبيل الإتيان، ولو بقليل من المال، للأسري وذويهم. ولكن الحجة المضادة أكثر وجاهة، فمعبر رفح يمكن أن يتعرَّض لما تعرَّض له السجن في أريحا، فالمراقبون الأوروبيون كان يمكن أن يغادروا المعبر بدعوي أن أموالا لدعم الإرهاب تُهرَّب عبر المعبر، فتتخذ إسرائيل هذا الرد المحتمل ذريعة لعمل يؤدي إلي إغلاقه مع ما يترتب علي ذلك من إضرار بمصلحة فلسطينية عامة كبري. وتبقي القضية.. كيف نوقف هذا التصعيد الحاد بين حماس وفتح وكيف ننزع فتيل الحرب الأهلية التي يدق لها الطرفان طبولها الآن؟!