مرة أخري، وكما لم تفاجئني الأحداث الطائفية في الإسكندرية، فإنه لم تفاجئني العمليات الإرهابية التي جرت في مدينة دهب علي ساحل خليج العقبة وفي مدينتي رفح والعريش علي ساحل البحر الأبيض المتوسط. مرة أخري، وكما تنبأت في الأسبوع الماضي باستمرار أحداث الفتن الطائفية حتي ولو اختلفت مسارحها وأشخاصها وملابساتها، فإنني أتنبأ هذه المرة أيضا بأن مثل هذه العمليات الإرهابية سوف تتكرر. ولا يعود مثل هذا اليقين إلي وجود شكوك لدي في كفاءة الأجهزة الأمنية، أو قدرة المؤسسات المعنية، أو سلامة القوانين المرعية، فعلي الرغم من المثالب في كل ذلك فإن القائمين عليها سوف يبذلون قدر الجهد والطاقة ما يعتقدون أنه يكفي لتلافي تكرار ما جري من فتنة أو عمليات إرهابية. وإنما يعود هذا اليقين المرعب، الذي أتمني أن يكون مخطئا تماما، وجملة وتفصيلا، لأنه جرت في المجتمع المصري أكبر عملية للتحول الاجتماعي والتي بمقتضاها أصبح الإنسان المصري له بعد واحد يقوم علي الدين الذي بات المحدد أحيانا الأوحد الذي يقوده في السلوك السياسي والاجتماعي. لقد شرحت بالتفصيل في مقال الأسبوع الماضي "في شأن الذي جري في الإسكندرية: أصحاب البعد الواحد!" الآليات التي تم من خلالها تحويل الإنسان المصري من إنسان متعدد الأبعاد يعطي للدين والوطن والأسرة والعائلة والقبيلة والمهنة والمدرسة والجيرة مقاما إلي تحديد السلوك الاجتماعي؛ إلي إنسان يحكم علي نفسه وعلي الناس بمقدار انتمائهم للدين وبمقدار تعصبهم له. وتدريجيا فإن الدين لم يعد فقط حدا فاصلا بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخري، بل أيضا حدا فاصلا بين المسلمين أنفسهم ليس فقط بسبب انتمائهم للمذهب السني أو الشيعي، وإنما حسب ارتدائه للأزياء الإسلامية وما يعد سلوكا إسلاميا رشيدا. وهكذا تغيرت البيئة المصرية تماما، ومع تغيرها لم يعد مستغربا أن تتغير السلوكيات لكي تلائم البعد الواحد للإنسان، ومع التغير في السلوكيات تغيرت مؤسسات ووظائف، فلم يبق الأزهر مثلا علي حاله، بل بات مؤسسة إعلامية وليست دعوية، فهي مطالبة علي أسس فورية أن تفتي في أمور تتعلق بنقل الأعضاء، وشكل التماثيل المباحة والمستباحة، وأصول التجارة في ظل العولمة، وعلم الجينات الوراثية. وفي حدود العلم فإنني لم أسمع كثيرا بين الأزهريين من يقول إن البشر أعلم بشئون دنياهم، وأن المسائل تحل باجتهاد الناس وتوافقهم. ومع خروج الأزهر للفضائيات وأجهزة التسجيل ظهرت إلي العلن وظيفة جديدة للداعية سواء الذي تخرج في مدارس الدعاة أو لم يتخرج، وبات الشيخ التليفزيوني يقود حركات سياسية واجتماعية تبدأ وتنتهي عند الدين الواحد. ولم يكن تصريح "طز" الذي ألقي به "المرشد العام" لجماعة الإخوان المسلمين "المحظورة" واصفا مصر الوطن إلا النتيجة الحتمية لذلك الإنسان صاحب البعد الواحد، حيث تنتهي مصر صاحبة السبعة آلاف عام من التاريخ لكي لا يبقي فيها إلا الولاية التابعة منذ القرن السابع الميلادي لخلافة إسلامية من نوع أو آخر. ولم يعد ما تراكم فيها من حضارة وعمران عبر آلاف السنين إلا نوعا من "المساخيط" التي يكون البقاء عليها نوعا من الاعتدال. وبعد ما يزيد علي ثلاثة آلاف عام من حكم الأجنبي والتطلع إلي حكم المصريين لأنفسهم فإن منطق الإنسان صاحب البعد الواحد لن يجد مشكلة في حكم أجنبي من ماليزيا أو الفلبين أو ألبانيا طالما كان مسلما صالحا. ومن الجائز تماما أن بعضا من هذه الأفكار ذات البعد الواحد هي التي راودت ذهن الانتحاريين الذين قاموا بالعمليات الإرهابية في دهب وما تلاها في رفح والعريش. فالوطن لم يعد وطنا إلا بالقدر الذي يكون فيه صالحا بالمعني الإسلامي لا أن يكون مفتوحا للسياحة والدخل، وإلا بالقدر الذي يكون فيه قريبا من المعركة الجهادية العظمي الممتدة بامتداد الكون كله. وعندما لف الانتحاريون الأحزمة الناسفة علي خصورهم فإنهم لم يقر في أذهانهم أن العملية سوف تتم في أرض "مصرية" حيث يعيش مصريون، ولكنها بالنسبة لهم كانت أرضا "إسلامية" حدث أن ساكنيها وشاغليها هم جماعة لقبت بالمصريين لا يتبعون الإسلام "الصحيح". وعندما جرت عمليات الإرهابية في طابا عبر عدد من الكتاب المرموقين عن فرحتهم لموت إسرائيليين في لعملية، أما موت المصريين فقد كان نوعا من "الغصة" التي عكرت الفرحة الكاملة. هنا لم يكن انتهاك القانون هو القضية، ولم يكن حمل السلاح هو الموضوع، ولم يكن القتل الجماعي هي المسألة، وإنما كانت الحرب عند الحد العدائي الفاصل بين الإسلام والديانات الأخري اليهودية في هذه الحالة. ولو أن الهداية نزلت علي بني إسرائيل الآن وجعلتهم مسلمين، فإن استعمارهم ومستوطناتهم في فلسطين لن تزيد علي كونها نوعا من الخلافات البسيطة. لقد عبر الإنسان ذو البعد الواحد عن نفسه مرة أخري من خلال عمليات إرهابية، كما عبر عنه من قبل في فتنة طائفية، وسوف تستمر هذه التعبيرات حتي تتكون لدي المجتمع الشجاعة للتعامل مع هذه القضية. وخلال التسعينيات، وبعد عملية الأقصر تحديدا، حدث نوع من اليقظة الوطنية، وكان هناك مبادرات ومحاولات، وكانت النتيجة هي سنوات الحرية من الإرهاب. ولكن سرعان ما عادت الأحوال إلي ما كانت عليه، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولاياتالمتحدة عادت صناعة البُعد الواحد للإنسان تعمل بأقصي طاقاتها، ومنذ عام 2004 بدأت العملية تظهر تجلياتها بالفتنة والإرهاب. وفي اللحظة الراهنة تبدو هذه العجلة الدائرة غير قابلة للرجوع مرة أخري إلي الإنسان متعدد الأبعاد لأن المجتمع لم يدرك بعد هذه الحقيقة؛ وسواء كان الأمر بالنسبة للدولة أو الجماعات السياسية المختلفة، فإن الأمر لا يعدو أن يكون التدين الذي يشتهر به المصريون. ولكن القضية ليس التدين، ولم يكن التدين في مصر أبدا جزءا من المشكلة وإنما كان جزءا من الحل، وإنما القضية هي أن يعدو الدين البعد الوحيد المحدد للسلوك الاجتماعي بحيث تسقط هيبة الدولة والقانون والرابطة القومية. وهنا تتحدد المهمة في الإدراك أولا لما يجري وآليات صنعه، وثانيا للتوافق علي كيفياة منعه من خلال آليات سياسية واجتماعية، وهذا وذاك ثالثا مع قدر غير قليل من الصبر!