قبل ثلاثة أشهر قامت شركة الطاقة الروسية العملاقة "غازبروم" بإجبار أوكرانيا علي دفع أسعار مرتفعة جداً مقابل الغاز الطبيعي الذي تحصل عليه من روسيا. وبينما عزا البعض ذلك إلي الصراع السياسي في كييف، تفاجأ الجميع بإعلان الشركة الروسية عن مضاعفة أسعار الغاز الطبيعي الذي تبيعه إلي روسياالبيضاء بثلاث مرات، علما أن البلد يعتبر حليفاً سياسياً لموسكو. وفي النهاية لم يكن أمام مولودوفا سوي الإذعان لرفع روسيا الأسعار بالتدريج علي امتداد ثلاث إلي أربع سنوات مقبلة. أما بالنسبة لباقي الجمهوريات السوفييتية السابقة فلم تعد تتمتع بأية خصومات، بل أصبحت تشتري الغاز الروسي بسعر السوق. والحقيقة أن الارتفاع في أسعار الغاز الروسي لا يرجع إلي دوافع سياسية بقدر ما يعكس الحقائق الاقتصادية والجيولوجية المقلقة المرتبطة بحقول إنتاج الغاز الروسية. ويمكن الجزم بأن الكرملين لا يحاول هذه المرة توظيف شركة "غازبورم" لممارسة نفوذه السياسي في روسياالبيضاء وأوكرانيا، أو باقي الدول الأخري، بل ثمة مشاكل واقعية تعيشها الشركة الروسية بسبب سوء الإدارة من جهة وتراجع الإنتاج الروسي من الغاز الطبيعي من جهة أخري. ويذكر أن روسيا تسيطر علي ربع الاحتياطات العالمية من الغاز الطبيعي، حيث تتمركز أغلب تلك الاحتياطات، أي ما يعادل 80% من إجمالي الإنتاج الروسي، في سيبيريا الغربية من خلال مجموعة من الحقول الضخمة والمتفرقة علي امتداد المنطقة. لكن منذ مطلع السبعينيات من القرن المنصرم توقفت روسيا عن التنقيب عن حقول جديدة، أو اكتشاف مناطق أخري غنية بالغاز، كما أن الحقول الكبيرة التي يتم استغلالها حالياً بدأت تعرف نقصاً ملحوظا في معدلات إنتاجها. ولتعويض النقص في إمدادات الغاز الذي يلوح في الأفق يتعين علي روسيا ضخ استثمارات كبيرة لتطوير صناعة الغاز، لاسيما وأن خيارات اللجوء إلي حقول جديدة لتحسين الإنتاج سوف تكون صعبة وباهظة التكلفة. فحقول الغاز المحتملة في أقصي الشمال الروسي وشرقها بعيدة جداً عن المناطق المأهولة، أضف إلي ذلك أنها تحتاج إلي أنظمة متطورة للنقل مثل الأنابيب، زيادة علي البيئة القاسية التي توجد بها تلك الحقول ما يجعل من عملية استغلالها أمرا بالغ الصعوبة سواء علي المستوي المادي، أو التقني. والحال أن شركة "غازبروم" تفتقد إلي الرأسمال الكافي للقيام بالاستثمارات الضرورية، كما تفتقد إلي التكنولوجيا اللازمة لذلك. فالشركة التي تملكها الدولة مرهقة بالديون ومثقلة بالتزامات باهظة التكلفة مثل تأمين إمدادات وفيرة من الغاز الطبيعي لسكان روسيا ولجيرانها من الأصدقاء، فضلاً عن واجبات الشركة المترتبة علي علاقاتها المتعددة مع أطراف أجنبية. ورغم المشاكل العديدة استطاعت "غازبروم" تفادي الأزمة والبقاء بعيداً عن الهزات العنيفة وقد ساعدها علي ذلك الركود الاقتصادي الذي اجتاح الاتحاد السوفييتي سابقاً ودول أوروبا الشرقية، ما قلل من الطلب علي الغاز. كما أن روسيا التي كانت تتوفر علي فائض في الإنتاج، ضاعفت من حجم صادراتها من الغاز الطبيعي ودخلت في التزامات تعاقدية يمتد أجلها لعدة سنوات مقبلة. بيد أن الركود الاقتصادي سرعان ما تحول إلي انتعاش في الاقتصاد الروسي نجم عنه تزايد الاستهلاك الداخلي للغاز الطبيعي، خصوصا في ظل السياسات الروسية التي تهدف إلي تطوير المناطق الشرقية للبلاد وتنميتها خلال السنوات القليلة المقبلة، وهو ما يفرض علي روسيا تلبية الاحتياجات المتزايدة من الطاقة في تلك المناطق إلي جانب الإنفاق المنتظر علي البني التحتية مثل مد السكك الحديدية وبناء المطارات وغيرها. لكن حتي عندما كان الاقتصاد الروسي يعاني من أزمة حقيقية خلال السنوات الأولي لانهيار الاتحاد السوفييتي سجل البلد مستويات عالية من استهلاك الغاز بسبب نظامه غير الفعال في تدبير الطاقة، إذ تعتبر روسيا اليوم ثاني مستهلك عالمي للغاز الطبيعي بعد الولاياتالمتحدة، رغم أن الاقتصاد الروسي هو أصغر بعشرين مرة من حجم الاقتصاد الأمريكي. وتعتمد روسيا في إنتاج الجزء الأكبر من حاجياتها الكهربائية علي الغاز الطبيعي، لكن مولدات الطاقة التي تستخدمها روسيا لا يتعدي معدل فاعليتها 33% مقارنة مع 50 أو55% في أوروبا، كما أن أكثر من 90% من المستهلكين والمراكز الصناعية لا تتوفر علي عدادات لقياس حجم الاستهلاك. والأكثر من ذلك أن الغاز في روسيا رخيص للغاية حتي بالمقارنة مع الفحم المتواجد بوفرة في البلاد ما يقلل من فرص الانتقال إلي مصدر بديل للطاقة. وقد عمدت روسيا في السنوات الأخيرة من أجل تعزيز إمداداتها من الغاز إلي الضغط علي تركمانستان لبيعها غازها الطبيعي بأسعار مخفضة. غير أن إنتاج تركمانستان نفسها من الغاز الطبيعي هو في تراجع مستمر، فضلا عن أن صناعة الغاز لديها بالكاد تعمل بسبب انعدام الاستثمارات الأجنبية التي لا تشجع البيئة السياسية المضطربة علي اجتذابها. ومن غير المتوقع أن تتمكن دول أخري في آسيا الوسطي مثل كازاخستان من سد النقص المتنامي في إمدادات الغاز الطبيعي. وفي ظل الاستهلاك المحلي المتصاعد والتدبير السيئ وغير الفعال للطاقة، ثم التزاماتها الخارجية تواجه صناعة إنتاج الغاز الروسية أزمة وشيكة. ورغم اقتراح البعض، بالنظر إلي الموارد الكبيرة التي تزخر بها روسيا، دخول شركات خاصة إلي مجال صناعة الغاز الطبيعي، إلا أن هناك عقبتين رئيسيتين تحولان دون ذلك. الأولي تتمثل في استحالة الوصول إلي شبكة أنابيب نقل الغاز التي تسيطر عليها "غازبروم"، وهو ما يفسر عدم اهتمام الشركات بالاستثمار في مجال الغاز. وتتمثل العقبة الثانية في الأسعار المنخفضة للغاز الطبيعي داخل روسيا ما يجعل من تسويق الغاز محليا أمرا غير مربح باستثناء الشركات التي توجه إنتاجها إلي خارج روسيا. ولعل أهم ما تحتاجه شركة "غازبروم" لتوسيع إنتاجها الأموال الكافية لضخها في استثمارات مدرة للربح، فضلا عن تغيير أنماط استهلاك الطاقة في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق والتعامل مع الغاز الطبيعي بشكل عقلاني. واللافت أن المحللين في مجال الطاقة أغفلوا التهديد الذي يطرحه تقهقر إمدادات الغاز الروسية بدعوي الكميات الهائلة التي مازالت تمتلكها روسيا، وبدعوي إقبال أطراف غربية علي نسج شراكات مع "غازبروم". ويبدو أن هؤلاء المحللين يراهنون علي المتغيرات في المدي البعيد ويتناسون أزمة النقص الحاد في الإمدادات التي باتت تلوح في الأفق.