مع مطلع الثمانينيات كان واضحا أن منهج التنمية القائم علي تدخل الدولة في الدول النامية، ودولة الرفاهة الاجتماعية في الدول المتقدمة قد وصل إلي طريق مسدود؛ فقد أفضي في الأولي إلي بيروقراطية متضخمة وعاجزة عن التطور، وقاد في الثانية إلي زيادة الإنفاق الحكومي إلي درجة لا يمكن حتي للدول الغنية تحملها. وهكذا انطلاقا من إدارة الرئيس ريجان في الولاياتالمتحدة، ووزارة مارجريت تاتشر في المملكة المتحدة بدأت الدعوة إلي العودة مرة أخري إلي "اقتصاد السوق" المعتمد علي القطاع الخاص والمبادرة الفردية والرأسمالية في العموم. وسرعان كما هي العادة أن أصبحت عملية تحويل الملكيات العامة إلي ملكيات خاصة هي المنهج الذي اتبعته المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية؛ وقدمت الدول الآسيوية مثالا جديدا علي نجاح السوق في تحقيق التنمية فتحولت دول فقيرة إلي نمور غنية وشرسة في المنافسة الدولية. وعندما انهار الاتحاد السوفيتي، ونما الاقتصاد العالمي خلال التسعينيات، وانضمت الصين والهند إلي قافلة النمو الرأسمالي في العالم، وحتي بات ممكنا التعامل مع بعض أزمات النظام كتلك التي جرت في آسيا وأمريكا الوسطي والجنوبية، فإن اقتصاد السوق بات هو المحرك الأساسي للنمو في العالم كله. وعندما وصلت هذه الأفكار إلي الشواطئ المصرية فقد كان رد البيروقراطية طوال عقد كامل هو البحث عن تعريف للموضوع؛ وما زلت أذكر كيف أن الجماعة الاقتصادية والاجتماعية ومن بعدها السياسية راحت تبحث عن اسم وتعريف للعملية كلها فقال البعض بالخصخصة، وقال البعض الآخر بالخوصصة، أما البعض الثالث فقد أصر علي التخصيصية. وفي كل الأحوال لم يكن البحث عن التعريف محاولة جادة نحو استخدام هذه العملية في تقدم مجتمعاتنا، وإنما كان البحث هروبا منها وتشويه التجربة العالمية فيها. تماما كما جري بعد ذلك من البحث المضني عن تعريف للإرهاب بهدف البحث عن مبررات له أحيانا وتبريره في أحيان أخري. وعندما اشتد الضغط من المؤسسات الدولية "المانحة" علي مصر فقد أتت البيروقراطية بفكرة جهنمية تقول بخصخصة المشروعات المشتركة التي تشترك فيها الحكومة أو القطاع العام مع مؤسسات أجنبية في رأس المال. ولما لم يكن ذلك كافيا فقد طرحت الحكومة خصخصة مجموعة من الشركات المملوكة للمحافظات والتي كان بعضها لا يزيد عن مزرعة للأرانب أو مجرد عربة ميكروباص أقامت لها البيروقراطية شركة عامة. المهم أن الثمانينيات انقضت ومن بعدها التسعينيات من القرن العشرين وكان الاقتصاد العام في مصر باقيا تقريبا علي حاله، وجاء القرن الواحد والعشرون وبينما تمت خصخصة الدول النامية والساعية للنمو كانت مصر لا تزال الحكومة فيها مالكة لأكثر من نصف شركاتها الصناعية، وكل البنوك الكبري، وجميع شركات التأمين، وبالطبع كل المؤسسات الاقتصادية المنتجة للمياه والكهرباء، والمحركة للمواصلات العامة، ومعها الموانئ والمطارات، وزاد عليها فوق ذلك نوع من الملكية غير الرسمية للمؤسسات الصحفية القومية. ولم يكن الخطير فقط هو بقاء الأمور علي حالها مما جعل معدلات التنمية متواضعة، وإنما كانت الحملة الأيدلوجية الضخمة علي عملية الخصخصة وبناء اقتصاد السوق. فقد صار الاتهام لها مرة بأنها دعوة لغزو رؤوس الأموال الأجنبية ومن ثم هي تهديد للأمن القومي، ومرة باعتبارها نوعا من الوصاية الأجنبية، ومرة باعتبارها وسيلة لإفقار الشعب المصري وكأن الشعب المصري كان غنيا. ولم يحدث ذلك فقط من جانب أحزاب المعارضة وإنما امتد أيضا إلي الحزب الوطني الديمقراطي الذي جعل الخصخصة كما لو كانت جزءا من محاولة للتكيف مع ضغوط دولية لا قبل لنا بها. ومنذ تمت عملية خصخصة شركة البيبسي كولا وحتي عملية خصخصة شركة السيد عمر افندي لم تمر المسألة دون معركة دامية، وتوزعت الاتهامات الخاصة ببيع مصر هكذا ذات اليمين وذات اليسار. ولم يسلم أحد من التشكيك في عملية التقييم حينما تولدت قناعة أن شركات القطاع العام المصرية تحقق أرباحا بما يكفي لشرائها من كل دول العالم بما يكفي لتحويل بر مصر إلي بر سويسرا!. وعندما جاء الدور علي وزارة الدكتور أحمد نظيف، وكان فيها من يعلمون أن بلدا لا يوجد فيها اقتصاد سوق هي بلد محكوم عليها بالتخلف إلي الأبد، وأنه لا يوجد اقتصاد سوق أو تقدم بالتالي في بلد تكون فيه الحكومة هي المنتج الأول، والمستهلك الأول، والمعلم الأول، والموظف الأول، والإعلامي الأول. وهكذا بدأت الحكومة خطواتها النشطة في عملية الخصخصة التي جذبت معها كما هو متوقع رؤوس الأموال الأجنبية، ومعها أيضا كما هو متوقع زيادة معدلات النمو. ولكن ذلك لم يكن مقبولا فبدأت الهجمة علي كل عملية خصخصة كان آخرها عملية خصخصة محلات السيد عمر افندي، ولكنها بالتأكيد لن تكون آخرها، فالمطلوب دوما إبقاء الحكومة في حالة من الدفاع المستمر عن نفسها وشرفها وولائها الوطني حتي تصل إلي درجة من الإنهاك فتتوقف عن العملية كلها وتعود البيروقراطية وجماعتها إلي الشكوي من التخلف والتراجع الاقتصادي. ولكن جزءا من اللوم لا بد وأن يعود للحكومة ذاتها، فهي لا توجد لديها إستراتيجية أو خطة سياسية للتعامل مع الموضوع، وشرح القضية للرأي العام باعتبارها أساسية للنمو الاقتصادي وبالتالي فتح الأبواب للاستثمار وفرص العمل للباحثين عن عمل. وفي أحسن الأحوال فإن الحكومة تدخل في عملية أولها يكون الاعتذار وآخرها يكون التأكيد علي أن الخصخصة تحدث لأنها نوع من الاضطرار القومي الذي لا بد منه وأن الحكومة في النهاية باقية ومسيطرة ومهيمنة. آخر الأمثلة لدينا جاءت عندما قررت الحكومة خصخصة شركة تنمية الصناعات الكيماوية سيد حيث سارع الدكتور مجدي حسن رئيس الشركة القابضة إلي التأكيد علي أن الدولة سوغت أن تحتفظ بمقدار 60% من الأسهم، وأنها سوف تظل متحكمة في الأوضاع، بعد أن قال بأنه "من غير الصحيح" ما تردد عن طرح أسهم أي شركة أدوية للبيع بالكامل، وأضاف أنه من غير الوارد إطلاقا تخصيص حصة للبيع إلي مستثمر "يهودي". وبالطبع فإنه من الوارد تماما أن يكون القرار لإبقاء 60% في يد الدولة راجعا لاعتبارات فنية، أو أنه لا توجد مصلحة حاليا لبيع الشركة لمستثمر رئيسي، ولكن تصوير العملية كلها كما لو كانت اعتذارا عن الخصخصة، ونفيا لغياب هيمنة الدولة، وتخوفا من نوعية خاصة من المستثمرين ينتمون إلي دين بعينه فهو ليس من حسن الفطن الاقتصادية في الاقتصاد العالمي المعاصر. ومن المؤكد أن مثل هذه اللهجة لا تروج للاستثمار في مصر بل تبعد المستثمرين عنا باعتبارنا دولة فرعونية لن تتخلص أبدا من هيمنة دولة متعصبة. وهنا نصل إلي لب الموضوع، فطالما استجمعت الجدولة قواها وقررت إتباع الطريق الذي سار عليه العالم نحو التقدم فإن عليها أن تتعلم أن السياسة والإعلام جزء هام من القضية ولا ينفصل عنها. ولا يجب علي مصر أن تدفع الثمن للإصلاح مرتين، مرة باتباع السياسات الخاطئة ومرة باتباع السياسات الصحيحة ولكنها العاجزة عن تعبئة المجتمع وراءها!.