في ظل انهيار الدعم الشعبي للرئيس جورج دبليو بوش في الولاياتالمتحدة طيلة العام الماضي، ربما كان العنصر الأكثر إثارة للدهشة في الأمر هو تمرد خبراء الاقتصاد ومراقبي السياسات الاقتصادية. منذ أسبوع، وفي صحيفة "وول ستريت جورنال"، أعلنت بيجي نونان، المرأة التي كانت تتولي كتابة خطابات الرئيسين رونالد ريجان ثم بوش الأب، أنها لو كانت تعلم كيف ستكون السياسة المالية التي سينتهجها جورج دبليو بوش لكانت قد صوتت لصالح آل جور في انتخابات عام 2000 الرئاسية. كتبت نونان: "لو كان قد خطر بذهني أن جورج دبليو بوش أحد كبار المبذرين الجمهوريين... لما كنت قد أدليت بصوتي لصالحه... لقد قدم بوش نفسه باعتباره رئيساً محافظاً، وتتسم المحافظة بموقف عدائي إزاء الإفراط في الإنفاق وفرض الضرائب، وذلك لأسباب تتراوح ما بين تجريدية وفلسفية إلي مادية وعملية". ثم أضافت نونان في يأس وقنوط: "لن يضطر السيد بوش لإعادة ترشيح نفسه لمنصب الرئاسة مرة أخري أبداً، وهو في موقف يسمح له، ولو علي سبيل الخطابة فقط، أن ينادي بضرورة إبطاء وتخفيض معدلات الإنفاق. لكنه لم يفعل ذلك، وليس هناك من الدلائل ما يشير إلي أنه قد يفعل...". الحقيقة أن نونان ليست علي صواب تام في هذا الشأن. ذلك أن جورج دبليو بوش لم يقدم نفسه باعتباره محافظاً عادياً، بل لقد وصف نفسه بأنه "محافظ متعاطف"، وهذا بحد ذاته يحمل قدراً من الغموض. فقد ركز بعض الناس علي كلمة "محافظ": فتوقعوا أن تكون السياسة المالية التي سينتهجها بوش مُحكمة فيما يتصل بالإنفاق، وأن يبادر إلي إلغاء العديد من البرامج بهدف تمويل تخفيضات ملموسة للضرائب. وركز آخرون علي "متعاطف": فتوقعوا أن تتحاشي سياسة بوش المالية إلي حد كبير تخفيض الضرائب، وأن تتبني أولويات ديمقراطية إلي حد كبير فيما يتصل بالإنفاق، بما في ذلك توسيع الدعم المالي الفيدرالي لصالح التعليم والعقاقير العلاجية الموصوفة، وبهذا يؤكد أن الجمهوريين يستطيعون تقديم وإدارة نسخة من الضمان الاجتماعي أكثر كفاءة وفعالية من حيث التكاليف. نتيجة لهذا فلم يكن أحد خلال عامي 2000 و2001 علي يقين حقاً من التوجهات السياسية لإدارة بوش. هل كانت محافظة مالية تقليدية؟ أم كان الأمر يتلخص في تقليد الديمقراطيين، ولكن علي نحو يبدو أفضل منهم؟ أم كانت سياسة "تجويع الوحش" من خلال تضخيم الدين الحكومي إلي الحد الذي يصبح معه تخفيض البرامج الاجتماعية أمراً محتوماً؟ مما لا شك فيه أن السعيين الأولين يشكلان هدفين شريفين للحكومة، لو تم تصميمهما وتنفيذهما بصورة جيدة. أما الثالث فهو أقل شرفاً ومن المرجح أن يمني بالفشل: فهو يعتمد علي مقدمة منطقية ضعيفة إلي حد خطير، ومفادها أن الخصوم السياسيين للحزب الذي يمسك بزمام السلطة سوف يتحلون بقدر أكبر من الاهتمام بالصالح العام، وسوف ينتهجون سياسة أقل قسوة حين يرجعون إلي الحكومة. بطبيعة الحال قد يتمني المحافظون والجمهوريون أن تبرز أولوياتهم السياسية المفضلة باعتبارها الاستراتيجية المرجحة لدي الإدارة. أو ربما يقنَعون بأي من الاستراتيجيات الثلاث التي كانوا يتوقعونها، ويتفقون علي أن السياسة المالية الجمهورية، علي أية حال، لا بد وأن تكون أفضل كثيراً من حالها في ظل حكم الديمقراطيين. ولكن بعدئذ وقع أمر غريب: فإدارة بوش لم تلجأ إلي أي من الخيارات الثلاثة التي كان من المتصور أنها فقط المتاحة. فقد اختارت الإدارة شيئاً مختلفاً تمام الاختلاف: تخفيضات ضخمة للضرائب، أجل، لكنها كانت تخفيضات رديئة التصميم تهدف إلي تعزيز النمو، هذا علاوة علي تبني أولويات محلية ديمقراطية فيما يتصل بالإنفاق، لكنها سيئة التنفيذ إلي حد شنيع. في النهاية تبين أنها لم تكن سياسة محافظة مالية تقليدية، ولا سياسة ديمقراطية بدون ديمقراطيين، ولا سياسة "تجويع الوحش"، بل شيء لا اسم له ولا هيئة. ليس الأمر أن الجمهوريين والمحافظين يتصورون أن إدارة بوش تبنت المنهج الخطأ، بل إنهم في الحقيقة لا يرون أي منهج ربما يكون هو الذي أدي بهم إلي هذا التمرد (المتأخر) علي السياسة المالية. وهذا هو السبب الذي يجعل العديد منهم يتمنون الآن لو كانوا قد أدلوا بأصواتهم لمرشح مختلف في انتخابات عام 2000.