حتي وهو يرحل عن الحياة أصر سلوبودان ميلوسوفيتش علي إظهار احتقاره للعالم. فبموته في زنزانة بالسجن قبل إتمام محاكمته بشأن جرائم الحرب المنسوبة إليه في مدينة لاهاي، ضن الرئيس اليوغوسلافي السابق علي ضحايا جرائم الحرب بالعدالة التي كانوا يتوقون إليها. وبرحيله عن الحياة علا شأنه لدي الصرب حيث تحول في نظرهم إلي "شهيد وبطل". والأكثر من ذلك جاء موت ميلوسوفيتش المفاجئ مخيبا لآمال الاتحاد الأوروبي في إخراج صربيا من عزلتها الدولية، فضلا عن انعكاس الحدث سلبا علي قضية العدالة الدولية التي قامت علي فكرة مثول رئيس دولة سابق أمام محكمة دولية لمواجهة تهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية لأول مرة في التاريخ. ومع ذلك يصر خبراء القانون علي أن الموت المباغت للرئيس اليوغسلافي السابق لن يهز قيد أنملة المبادئ الراسخة التي كانت وراء محاكمته. ويؤكد هذا الطرح "إدجار شين" المراقب لمحاكمة ميلوسوفيتش علي مدي السنوات السابقة حيث قال "لقد أفلت ميلوسوفيتش من الحكم، لكنه لم يفلت من العدالة، فهو لم يقض تحت وابل من الرصاص في بلغراد، ولم يذهب ليستجم في جنوبفرنسا، بل مات في زنزانة بالسجن". وعثر علي ميلوسوفيتش ميتا يوم السبت الماضي في زنزانته بمحكمة جرائم الحرب الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، حيث قضي أربع سنوات رهن الاعتقال بعدما وجهت إليه تهم تتعلق بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ولم يمهل القدر ميلوسوفيتش الوقت الكافي لسماع الحكم النهائي الذي كان مقررا النطق به في آخر جلسات المحكمة خلال الشهرين المقبلين. ويعزي سبب التأخير إلي أن ميلوسوفيتش كان يطلب منذ انطلاق المحاكمة تأجيل موعدها بسبب المشاكل الصحية التي يعاني منها، حيث أفاد أطباء مختصون عينتهم المحكمة أنه مصاب بمشاكل في القلب وارتفاع في ضغط الدم. وقد رفضت المحكمة طلبا تقدم به الرئيس اليوغسلافي السابق بالذهاب إلي روسيا للعلاج إذ ارتأت أن العلاج في لاهاي كاف وليست هناك حاجة تستدعي المغادرة إلي روسيا. وما إن تأكد خبر وفاة ميلوسوفيتش حتي سارعت رئيسة الادعاء "كارلا ديل بونتي" إلي الإعراب عن أسفها للضحايا الذين لن يتمكنوا من الحصول علي العدالة التي يحتاجونها ويستحقونها. وأضافت أن موت ميلوسوفيتش يجعل من الملح أكثر من أي وقت مضي" تسليم بقية الفارين إلي محكمة جرائم الحرب الدولية مثل راتكو ميلاديتش ورادوفان كراديتش. ومع امتناع صربيا عن التعاون الجدي مع المحكمة الدولية وإلقاء القبض علي باقي المتهمين، ضاعف الاتحاد الأوروبي من ضغوطه علي بلغراد لتسليم ميلاديتش وكراديتش المتورطين في جرائم حرب أودت بحياة 8 آلاف بوسني من الرجال والأطفال في مجزرة سريبرينتشا. وقد أبدي الاتحاد الأوروبي حزما واضحا تجاه الموضوع، حيث هدد بوقف المحادثات مع صربيا الرامية إلي إقامة علاقات تعاون مع الاتحاد ما لم تسلم المطلوبين إلي المحكمة الدولية في أجل أقصاه 5 أبريل المقبل. بيد أن موت ميلوسوفيتش المفاجئ جاء ليصعب من هذه العملية وليجعل من تسليم المطلوبين أمرا صعب المنال، خصوصا في ظل الشعبية المتدنية للمحكمة الدولية لدي الصرب الذين يعتبرونها معادية لهم، رغم أنها أدانت أيضا بعض الشخصيات الكرواتية والبوسنية. وفي هذا السياق يؤكد "جيمس ليون" المستشار في بلغراد ل "مجموعة الأزمات الدولية" أن موت ميلوسوفيتش وما سبقه من انتحار ل"ميلان بابيك" الأسبوع المنصرم، الذي سبق وأن حوكم بتهمة ارتكاب جرائم الحرب، في نفس مركز الاعتقال "تعزز الشعور لدي الصرب بأن محكمة جرائم الحرب الدولية تفتقد العدالة والمصداقية". من جهة أخري يعرف الساسة الصربيون، بمن فيهم المسئولون الحكوميون، أن مهاجمة المحكمة الدولية تزيد من شعبيتهم في الشارع الصربي. وإلي ذلك يشكل موت "ميلوسوفيتش" قبل النطق بالحكم انتكاسة حقيقية لآمال تصالح الصرب في يوم من الأيام مع ماضيهم وإقرارهم بالجرائم التي ارتكبت باسمهم في حق الآخرين أثناء حرب البلقان في البوسنة وكرواتيا وكوسوفو. "إدجار شين"، أحد الخبراء الذين راقبوا المحاكمة أكد أنه "مازالت ثقافة عدم الاعتراف بالجرائم التي ارتكبتها القوات الصربية شائعة". وقد جاء الموت المباغت لرئيسهم السابق ليوجه ضربة قاسية إلي الأمل في تجاوز تلك الثقافة والإقرار بالأخطاء الجسيمة التي ارتكبت في الماضي. وفي استطلاع للرأي أجري مؤخرا في صربيا عجز 50% من الصرب المستجوبين عن تسمية جريمة حرب واحدة ارتكبها قادتهم، حيث تبين أنهم إما لا يتذكرونها، أو أنهم لا يعتبرونها جرائم حرب. ويقول الخبراء إن الطريقة الوحيدة لتغيير مواقف الصرب ووضعهم وجها لوجه أمام الفظائع التي اقترفت هي متابعة محاكمة المتورطين في المحكمة الدولية. لكن يعترف الكثير من الخبراء بأن ذلك لم يحصل بالطريقة الصحيحة، إذ بعد مرور أربع سنوات علي انطلاق جلسات المحاكمة ونقلها علي شاشات التليفزيون بدأ الناس يفقدون صبرهم ويشككون في مدي قدرة المحاكمة علي إثبات أي شيء في النهاية، ووضع إصبعها علي الجرائم التي قيل عنها الكثير. ويضيف الدكتور "ليون" أن ما كان يفترض أن يتحول إلي أهم حدث بعد تفكك يوغوسلافيا وصل اليوم إلي طريق مسدود يصب في مصلحة الدعاية التي أطلقها ميلوسوفيتش. وللاستفادة من تجربة محاكمة رئيس يوغوسلافيا السابق وعدم تكرار نفس الأخطاء صرح "ريتشارد ديكر"، رئيس برنامج العدالة الدولية في منظمة مراقبة حقوق الإنسان بأن الدرس الأهم هو عدم إهدار الوقت أثناء المحاكمات والتعجيل في النطق بالحكم، ويتابع قائلا: علي المحاكمة أن تركز علي الجرائم الأكثر تمثيلا للفظائع، وأن توازن بين حق المتهم في الدفاع عن نفسه، وبين مصلحة العدالة في تنظيم جلسات فعالة". لكن إصرار ميلوسوفيتش علي الدفاع عن نفسه دون مساعدة المحامين جعل المحاكمة تتأخر طويلا بسبب حالته الصحية التي حتمت تأجيل الجلسات أكثر من مرة. وحتي لا يضيع حق الضحايا في معرفة الجرائم التي اقترفت قررت رئيسة الادعاء ديل بونتي أن تختصر التهم المتعددة إلي تهمة واحدة تكون معبرة عن حقيقة ما جري. أما التفاصيل فقد أكدت أنه سيتم الكشف عنها لاحقا من خلال محاكمة باقي الضباط الصرب الذين كانوا يأتمرون بأوامر ميلوسوفيتش.