لا أعرف الدكتور هاني هلال وزير التعليم العالي معرفة شخصية، ولم أتشرف بلقائه من قبل .. ولا توجد - بالتالي - ضغينة أو عداوة مسبقة. وقد طالعت شأني شأن ملايين القراء وقائع كثيرة وغريبة منسوبة إليه في الفترة القصيرة التي قضاها علي مقعد الوزارة. وهي وقائع - إذا صحت - لا تتناسب مع مقام منصبه الوزاري، ولا تتناسب من باب أولي مع المقام الأكاديمي الذي ينظر إليه المجتمع بكل احترام وتوقير. فإذا بنا - والعهدة علي الراوي - إزاء تبادل عبارات بين الوزير وأستاذة جامعية من قبيل "إنتي تروحِّي تقشري بصل في بيتكم" .. الخ. والمصيبة الكبري أن مثل هذه المهاترات قد أصبحت أهم ما نسمع من "أخبار" عن التعليم العالي، في وقت كنا نتطلع فيه إلي أن نسمع من الوزير "الجديد" خطته للإصلاح في هذا القطاع الحيوي والاستراتيجي المسئول عن "عقل" الأمة، خاصة بعد ان تردت فيه الأوضاع بصورة غير مسبوقة، ووصل الحال إلي أن تأتي قائمة أفضل خمسمائة جامعة في العالم خالية من اسم واحد لجامعة مصرية، بينما ظهرت علي قائمة "الشرف" أسماء كثيرة لجامعات من بلدان العالم الثالث بل من بلدان كان لمصر دور في بناء قاعدة التعليم فيها في العصور الخوالي! وبينما كنا ننتظر من وزير التعليم العالي الجديد ان يعلن لنا الخطوط العريضة ل "ثورة" حقيقية تخرج التعليم العالي من أزمته وتضعه علي طريق اللحاق بالثورة العلمية والمعلوماتية التي بدأت تغير وجه العالم بالفعل .. أصبحنا نفاجأ كل يوم بأخبار تكرس هذه الأزمة. خذوا علي سبيل المثال تلك الفضيحة التي حملتها الصفحة الأولي من العدد الحادي والعشرين لجريدة "الكرامة" الصادرة يوم 28 فبراير 2006. يقول الخبر "بدأت الفضيحة عندما اقترح عدد من أساتذة الجامعة - أي جامعة قناة السويس - اسم الدكتور محمد أبو الغار لالقاء محاضرة في إطار النشاط العلمي والثقافي للجامعة. وأمام رفض الدكتور فاروق عبد القادر، رئيس جامعة القناة، وإعلان غضبه بوضوح علي الاقتراح والمقترحين، حاول أحدهم تخفيف الصدمة، وإرضاء عبدالقادر . فاقترح دعوة الدكتور أحمد زويل لالقاء المحاضرة، وبالتالي تزداد فرصة الاهتمام الاعلامي. وافق رئيس الجامعة متهللاً، واتصل الأساتذة بالدكتور زويل، الذي اشترط أن تمنحه الجامعة الدكتوراة الفخرية لكي يوافق علي الحضور، وعلي الفور اجتمع مجلس الجامعة، وقرر منح زويل الدكتوراة الفخرية في جلسة بتاريخ 24 يناير الماضي، وتم نشر الخبر بالصحف القومية، مع التأكيد علي موعد المحاضرة في منتصف شهر فبراير. فجأة اتصل الوزير هلال ، موبخا ومحذرا من إتمام الزيارة ومنح الدكتوراة لزويل، لأن "الجماعة فوق" غضبانين عليه، بسبب انتقاداته المستمرة لنظام التعليم، وخطوات البحث العلمي في مصر، والتي أفشلت مشروع الجامعة التكنولوجية، الذي كان يحلم بتنفيذه في مصر. وبمجرد أن وضع هلال سماعة التليفون، كان عبد القادر قد جمع مجلس جامعته، واتخذ قرارا بالغاء منح الدكتوراة الفخرية للعالم أحمد زويل، بالسهولة نفسها التي اتخذه بها". انتهي الخبر المنشور علي الصفحة الأولي من "الكرامة". وإذا صح هذا الخبر فإنه ينطوي علي عدد من الكوارث. الكارثة الأولي هي "الفيتو" علي شخص الدكتور محمد أبو الغار. والدكتور أبو الغار لمن لا يعلم واحد من أكبر أساتذة الطب في مصر والعالم العربي وله إنجازات علمية وأكاديمية مشهود بها ومسجلة حتي قبل أن تظهر جامعة قناة السويس الي الوجود. وفضلا عن ذلك فانه مفكر له العديد من الإسهامات والاجتهادات المثيرة للتأمل والمحركة للتفكير في زمن التكفير والجمود. أضف إلي ذلك دوره "كناشط" أكاديمي في إطار حركة 9 مارس التي تضم عددا من اساتذة الجامعة، وتكتسب كل يوم تعاطفا وتأييدا من أعضاء هيئات التدريس بالجامعات المصرية. وهي حركة تستمد اسمها من التاريخ الذي قدم فيه أحمد لطفي السيد استقالته من رئاسة الجامعة المصرية احتجاجا علي انتهاك الدولة لمبدأ استقلال الجامعة وقيامها بالتحريض علي فصل أستاذ جامعي شاب يدعي الدكتور طه حسين! هذه الحركة، أي حركة 9 مارس، تناضل من أجل استعادة التقاليد الأكاديمية المحترمة، بما فيها الدفاع عن الحرية الأكاديمية والدفاع عن استقلال الجامعة. وهي بهذا النحو تعد إحدي منارات الإصلاح التي تستحق الدعم والتشجيع. وقد فرحت واستبشرت خيرا حينما علمت أن الدكتور هاني هلال وزير التعليم العالي، التقي بالدكتور أبو الغار وزملائه في حركة 9 مارس، في بداية تسلمه لمنصبه الوزاري. لكنها "فرحة ما تمت" كما يقول المثل، فها هو الدكتور أبو الغار يتعرض للنبذ وتتم إلغاء محاضرته في جامعة قناة السويس تحت سمع وبصر الوزير! وتلك كارثة. الكارثة الثانية هي أن يتم إلغاء محاضرة أبو الغار بقرار فردي، وكأن جامعة قناة السويس "عزبة" خاصة. الكارثة الثالثة أن يتم استبدال محاضرة ابو الغار بمحاضرة زويل بنفس الصورة الفردية والارتجالية، والاخطر أن يتم اتخاذ قرار بمنحه الدكتوراة الفخرية - بناء علي طلبه! - بنفس الصورة العشوائية. ثم يتم التراجع عن منح الدكتوراة الفخرية بناء علي مكالمة تليفونية من الوزير، وان تستند مكالمة الوزير علي غضب "الجماعة فوق"! هل يليق هذا الأسلوب البدائي بأرفع المؤسسات الأكاديمية وبوزير التعليم العالي؟ وهل يليق هذا الأسلوب الفج في التعامل بالذات مع إحدي القمم العلمية المصرية النادرة كالدكتور أحمد زويل؟ لقد نجحنا بامتياز في أن نجعل زويل "يطفش" من قبل بعد أن أغرقنا مبادرته لبناء قاعدة تكنولوجية وعلمية وطنية مصرية في محيطات من البيروقراطية والتفاهات والسخافات. وها نحن نواصل السير علي نفس الطريق "باقتدار" غريب، لنهين الرجل ونمنع عنه دكتوراة فخرية لن تزيده شيئا ولن تمثل له شيئا يعتد به. لكن الخطير فيها أنها تمثل إهانة للعلم والبحث العلمي وتكريسا للعشوائية والتخبط وانتهاك استقلال الجامعة. بينما كنا ننتظر من الوزير هلال خطة، ورؤية، للخروج من أزمة التعليم العالي واللحاق بركب ثالث ثورة عرفتها البشرية!