برغم أن سياسة إيران منذ انطلاقة ثورتها الإسلامية في 1979 كانت دائما محلا للجدل علي المستوي الإقليمي والدولي، إلا أن الضوء قد تركز عليها بصورة كبيرة مؤخرا مع تطور مشروعها النووي، وتزايد الشكوك حول وجود أهداف عسكرية لهذا المشروع وليس فقط مدنية. وقد توتر الموقف أكثر مع إيران بعد سيطرة التيار المحافظ المتشدد علي الحكم، ووصول الرئيس محمود أحمدي نجاد إلي كرسي الرياسة، خلفا للرئيس السابق المعتدل خاتمي والذي فشل في التمكين لمنهجه الإصلاحي في مواجهة الجناح المتطرف من السلطة، والمسيطر علي ناصية اتخاذ القرار في طهران. وعلي عكس اهتمام العالم وقلقه من النشاط النووي الإيراني من أول الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلي الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، مرورا بالولاياتالمتحدة وإسرائيل لم يصدر من الدول العربية مجتمعة أو فرادي حتي الآن موقف من الموضوع كأنه لا يخصها في شئ. وعندما أشارت إليه مؤخرا قمة الخليج من خلال التعبير عن قلقها من تطورات المشروع النووي الإيراني انقلبت الدنيا عليهم، خاصة بعد تلقي القمة لرسالة من عمرو موسي الأمين العام لجامعة الدول العربية مطالبا الدول الخليجية بنظرة أكثر شمولا تأخذ في الاعتبار مخاطر الترسانة النووية الإسرائيلية، ومنبها إلي أهمية الدعوة إلي إخلاء منطقة الشرق الأوسط كلها من أسلحة الدمار الشامل بما في ذلك الأسلحة النووية. الموضوع في جوهره يدور حول إيران والعالم العربي، وموقف كل طرف منهما من الآخر، وهو موضوع ذو طابع استراتيجي لم يحظ حتي الآن بالاهتمام الكافي من المفكرين والمحللين العرب وظل يتراوح بين النظر إلي إيران بوصفها مصدرا للتهديد أحيانا إلي حد الحرب معها، وبين اعتبارها حليفا محتملا من منظور بعض القواسم المشتركة بينها وبين الدول العربية في الدين والجغرافيا والتاريخ المشترك. ولقد تردد ذلك بالفعل في الآونة الأخيرة في مقالات بعض المفكرين والكتاب الجادين، بعضهم يستنكر القلق من المشروع النووي الإيراني ويعتبره مكسبا للعرب والمسلمين في مواجهة إسرائيل، وبعضهم يدعو إلي تحالف عربي إيراني في مواجهة المخططات الغربية الموجهة إلي المنطقة. وفي الحالتين يستند التحليل علي القواسم المشتركة العامة أي الجوار والدين والتاريخ بدون تحديد أي نوع من الجوار أو الدين أو التاريخ نتحدث عنه. ومن البديهي أن تلك القواسم كما يمكنها أن تكون دافعا للصداقة والتحالف يمكنها أيضا أن تكون مصدرا للعداء والحرب. وبالتأكيد فإن ألمانيا بالنسبة لفرنسا في عهد هتلر، مختلفة تماما عنها في عهد شرودر وميركل، برغم الجوار والدين والتاريخ المشترك بين البلدين في الحالتين. نعود إلي إيران ونأخذ من التاريخ الجزء القريب منه والمؤثر علي الحاضر ونجدها خلال سنوات الحرب الباردة كانت عنصرا أصيلا في الاستراتيجية الغربية في مواجهة الشيوعية والنظم القومية. ويومها مارست طهران سياسة الهيمنة علي دول الخليج الأمر الذي كان مقدمة بعد ذلك لاحتلال الجزر الثلاث لدولة الإمارات، ومازالت إيران تصر حتي الآن وحتي بعد وصول الثورة الإسلامية إلي الحكم علي أنها أرض إيرانية، وترفض بإصرار أي تحكيم دولي في هذا الشأن. خلال الحرب الباردة وفي عهد الشاه، كان التعاون الإيراني الإسرائيلي علي أعلي مستوي حتي في مجال الأسلحة الاستراتيجية مثل الصواريخ، وكان العراق هو العدو الأول لإيران في الاستراتيجية الإيرانية، وكانت مشاكل الحدود بين الدولتين الجارتين لا تنتهي. وفي ذلك الوقت كان هناك منطق إيراني يشابه منطق دول الخليج الآن أن علاقته بالغرب تجعله في المعسكر الفائز في المعركة العالمية، وأن مصالحه الحقيقية مع أمريكا وليس مع الاتحاد السوفييتي. وهو منطق كان مخالفا تماما لمنطق مصر في عصر الرئيس عبد الناصر، وكلا المنطقين كانت له مبررارته وأسبابه، وفي الحالتين كان من الممكن أن يجد كلا من الشاه وعبد الناصر من الدين والتاريخ ما يبرر به اختياره السياسي. وعندما تغير الحال بعد الثورة الإسلامية انقلبت الأوضاع مائة وثمانين درجة، وبدأت قطيعة إيران مع الغرب وإسرائيل ومع جيرانها أيضا. وفي الحقيقة لقد انقلبت الثورة أيضا علي بعض أبنائها من الزعماء غير الدينيين الذين شاركوا الخميني في حركته ورجعوا معه من "باريس" إلي طهران، ولم يدر في خلد هؤلاء "الأفندية" أن إيران سوف تتحول إلي دولة دينية يقف علي رأسها مرجع ديني له كل هذه السلطات. ولقد تحول الدين نفسه إلي مصدر للتهديد عندما خططت إيران لتصدير الثورة إلي الخارج، ووصلت جحافل الحجيج الإيرانية إلي مكة رافعة قبضة يدها داعية للثورة الإيرانية، ولحسن الحظ أن ذلك تغير مع الوقت لكنه ترك مخاوفا وشكوكا حول النظام السياسي في طهران وأهدافه المستقبلية. ولعل ما نشاهده الآن في العراق يشرح ما غمض علينا عندما اندلعت الحرب العراقية-الإيرانية التي ستمرت حوالي ثماني سنوات، ويؤكد أن الحرب بين نظام صدام القومي ونظام الخميني الديني كان لا مفر منها، وأن رؤية الخميني _ كما هي رؤية النظام الإيراني الآن _ كانت في النظر إلي العراق بوصفه الثمرة الأولي لمشروعه الشيعي الكبير. وأي تصور غير ذلك يصطدم تماما مع مصالح الطرفين مهما رفع كلا منهما من شعارات إسلامية. وقد بدا صدام نفسه حريصا قبل غزوه للكويت علي اللعب بورقة الدين فأضاف كلمة الله أكبر إلي العلم العراقي. استمرت الحرب العراقية الإيرانية ثمان سنوات مريرة، وتلقي العراق فيها دعما بالمال والعتاد من السعودية والكويت وباقي دول الخليج، ولم تكن هذه الدول في حاجة إلي تحريض من أحد لتقديم هذا الدعم للعراق لخوفهم الشديد من امتداد تأثير الثورة الخمينية إلي بلادهم، وأيضا لأن مصلحتهم من وجهة نظرهم كانت تصب مع الولاياتالمتحدة المتصادمة تماما مع إيران. وعندما قام صدام باحتلال الكويت وتصدت له الولاياتالمتحدة مع باقي دول التحالف الدولي وجه صدام صواريخه للسعودية ودول الخليج، وهي الصواريخ التي كتب فيها العرب شعرا وتفاخروا بها، لكن صدام قرر ضربهم بها لأن واقع الأمور كان يفرض عليه ذلك. وبصرف النظر عن أي منطق مغاير له دوافعه المفهومة، وجدت دول عربية كثيرة أن مصالحها مع الولاياتالمتحدة وليس مع إيران. مصر مثلا إبان الثورة الإيرانية كانت قد غيرت دفتها ناحية الولاياتالمتحدة وأنجزت بمساعدتها اتفاقية السلام مع إسرائيل التي استعادت بها سيناء، ومن هذه الزاوية فإن العداء الإيراني للولايات المتحدة وعملية السلام لم يكن يصب في مصلحة مصر. كما أن تسمية أحد شوارع طهران باسم قاتل السادات كان جارحا لها. ونفس الشئ نجده في دول الخليج التي وجدت أن من مصلحتها إقامة علاقة استراتيجية مع الولاياتالمتحدة بعد أن رأت أن العروبة والإسلام لم يمنعا صدام من اجتياح الكويت وضمه إلي العراق. والطريف أن صدام أرسل طائراته إلي إيران عدو الأمس القريب لحمايتها من القصف الجوي الأمريكي خلال حرب الكويت. باختصار، أصبحت غالبية الدول العربية تسير في طريق مختلف تماما عن الطريق الإيراني، فهي تعمل علي الانضمام إلي منظمة التجارة العالمية، وصارت منخرطة في شراكة اقتصادية مع أوروبا والولاياتالمتحدة، وتدير حوارا مع حلف الناتو، وتفتح أراضيها للإستثمار العالمي والإعلام العالمي وشبكات الاتصالات العالمية، وتؤمن حتي الآن من خلال مقررات القمة العربية بأن عملية السلام مع إسرائيل تقوم علي وجود دولة فلسطينية علي غزة والضفة وعاصمتها القدس الشريف، وهو ما يعني الاعتراف بوجود دولة إسرائيل ضمن دول المنطقة. إيران بعيدة تماما عن ذلك لأنه لا يتمشي مع جوهر أيديولوجيتها الدينية السياسية، وبالتالي فإن اختياراتها مختلفة، ونظامها السياسي مختلف، ومنطقها في تعريف مصالحها مختلف عن منطق غالبية الدول العربية إن لم يكن كلها، برغم الجوار والدين والتاريخ المشترك. وإذا أردنا فعلا ألا نقلق من القنبلة النووية الإيرانية فلن يقتصر الأمر علي مجرد طمأنة النفس بالقول بأنهم مسلمون مثلنا ولن يصيبنا منهم أذي، ولكن المطلوب في هذه الحالة أن تقرر الدول العربية التحالف مع إيران، وأن تطلب من الولاياتالمتحدة الانسحاب من الخليج وتعلن عليها الحرب إذا لم تستجيب إلي ذلك، وأن نقطع العلاقات مع إسرائيل ونعلن مع الإيرانيين أن إسرائيل يجب أن تختفي من الوجود، أو تنقل إلي كندا أو ألاسكا. وبدون أن نفعل ذلك يجب أن نقلق من القنبلة الإيرانية، لأننا باختصار وبصارحة وبدون زعل في المعسكر الآخر الذي اختارات إيران أن تنازله في وقت ما كما فعل صدام حسين من قبل.