سقطت عزيزة مغشياً عليها في نهر الطريق.. تحاول عشرات السيارات والأتوبيسات والميكروباصات تفاديها.. يكافح (عاطف) شاب في الثلاثينيات من العمر حتي يصل إليها في منتصف الشارع بعد عناء.. ليحمل جسدها الهزيل.. ويجلسها علي جانب الطريق بعد محاولات يائسة للعثور علي الرصيف الذي اختفي من معظم شوارع مصر، ويذهب ليحضر لها كوباً من الماء من الكافيتريا المواجهة.. فتفيق مرددة: (هل عبرت الشارع? هل وصلت إلي الجانب الآخر? وتفتح عيناها الحزينتان وتقول: لماذا اعادتموني إلي هنا? إلي نقطة البداية مرة أخري.. أنا لازم اقبض المعاش النهارده). وتصر علي الوقوف.. لا تستطيع قدماها الضعيفتان أن تحملاها.. وحركتها البطيئة تدل علي أن سنوات عمرها قد جاوزت السبعين منذ زمن، فيسألها عاطف: لماذا تريدين العبور للجانب الآخر? فترد قائلة: أنا أسكن في المساكن الشعبية اللي في شارع عرابي بالمهندسين ومعاشي متحول علي مكتب بريد مدينة الطلبة اللي في الجهة المقابلة لنفس الشارع، وكل شهر اتكبد عناء العبور للناحية الثانية، واحلم منذ سنوات بكوبري أو نفق للمشاة ليسهل لي ولغيري عبور الشارع خاصة أنه لا توجد أي اشارة تنظم المرور في الشارع كله، ونشرت لي مشكلتي جارتي الصحفية عدة مرات، ولكن واضح أن الشكوي لا تجد اذناً تسمعها. ثم يعاود عاطف سؤالها: أليس لديك من الابناء من يستطيع مرافقتك كل شهر لتقبضي معاشك، أو يمكنك عمل توكيل لأحد أولادك لصرف المعاش نيابة عنك? أغمضت عيناها وكأنها تستدعي شريط ذكرياتها وقالت: لدي ثلاثة أبناء بنتان وشاب وكلهم في مراكز مرموقة يحسدهم الناس عليها حيث كانت وصية والدهم أن اعلمهم تعليماً عالياً وبعد أن مات لم يترك لنا معاشاً حيث كان يعمل سباكاً يكسب قوت يومه بيومه، لذلك بعد وفاته اشتغلت كل حاجة واي حاجة حتي اصرف عليهم فعملت خادمة في البيوت وعاملة نظافة في مستشفي (وداده) في حضانة حتي انهوا تعليمهم وبعد أن تزوجوا انشغل كل واحد منهم بحياته واولاده، وانا لم اتعود أن أطلب أي شيء من احد، واستطردت قائلة بصوت خفيض وكأنها تكلم نفسها: (أنا مش زعلانة منهم فربما ليس لديهم الوقت ليزوروني وقد يكونوا ضلوا الطريق إلي بيتي، أو فقدوا رقم تليفوني، ولكني لا استطيع نسيانهم فهم فلذات كبدي. معاش ضئيل كما قلت لك- وبعد أن مات وضاعت صحتي في خدمة البيوت وغيرها من الأماكن، ولاد الحلال دلوني علي مكان وزارة التضامن التي قدمت لها طلباً وعملت لي بحثاً اجتماعياً وبعد حوالي عام صرفوا لي معاش السادات ولكن لماذا لم تحاولي الاستفادة من خدمة توصيل المعاشات للمنازل? قالت: أنا عرفت ان الموظف بياخذ خمسة جنيهات مقابل توصيل المعاش وهو مبلغ لا أقدر عليه هو المعاش فيه كام خمسة?! لا يكفي العيش الحاف ولكن كيف يمكنك العيش بهذا المبلغ الضئيل.. ده حتي ما يكفيش عيش حاف? شردت للحظات وكأنها تسافر عبر أيام الشهر الطويلة ثم قالت: زي ما أنت شايف يا ابني انا ما باكلش كتير لأني مريضة بالسكر ومستشفي التأمين الصحي بتصرف لي الانسولين ناقص ولكن مع تناول وجبة واحدة في اليوم أهو العلاج بيكفي الشهر والحمد لله فإني لا أمد ايدي لأحد حتي أولادي قلت لهم إن والدهم ترك لي وديعة أصرف من فوائدها عشان ما يحملوش همي، وربنا يسامحني علي الكدبة دي، ورغم كده مفيش حد منهم بيسأل علي واخاف أن أموت وحيدة لا أحد يدري بي عشان كده أنا طلبت من جارتي أم سيد (تشقر) علي كل يوم واعطتها نسخة من مفتاح شقتي وثمن كفني عشان لو جه يوم وما فتحتش الباب وجه الأجل.. تتكفل بكل شيء ووصيتها أنها متتصلش باولادي عشان مش يوم مايفتكروني يحزنوا لفراقي! ثم هبت واقفة وسألت: الساعة كام مرددة أنا اتاخرت لازم اقبض المعاش النهارده لاني ما اكلتش من امبارح وطلبت من المارة أن يساعدوها في عبور الشارع بسرعة، وهرولت وهي تتعثر في عباءتها السوداء، حتي وصلت إلي مكتب البريد واختفت وسط عشرات العواجيز والعجزة والارامل والمطلقات الذين يتزاحمون في طوابير لقبض معاشهم، وفي ثوان لم يبق لها أي أثر.. ولكن بقي السؤال الذي شغل الرأي العام منذ عامين ولم ترد اجابة شافية له حتي الآن وهو: اين ذهبت أموال التأمينات والمعاشات والتي قدرتها وزارة المالية ب176 مليار جنيه وتم تحويلها من بنك الاستثمار القومي إلي وزارة المالية منذ عامين بحجة استثمارها لصالح أصحابها وليس للاستيلاء عليها? ولماذا تخصص الدولة جزءاً من ميزانيتها لزيادة المعاشات رغم أن الخزانة العامة لا يجب أن تتحمل هذه الأموال، لأن هناك فائضاً متراكما كبيراً يقدر بمئات المليارات لأصحاب التأمينات والمعاشات ويجب أن يخصص جزء منه بشكل تكافلي لرفع المعاشات المحدودة? وأخيراً.. يجب أن نذكر أن معاش السادات ليس من قبيل المعاشات التي سدد أصحابها التأمينات وإنما يعد من انظمة الضمان الاجتماعي التي يجب علي الدولة أن تتحمله كاملاً باعتباره جزءاً من مسئوليتها تجاه الفقراء من مواطنيها وهو حق دستوري لكل مواطن تنظمه المادة الخامسة من القانون رقم 112 لسنة 1980. ولا أجد ختاماً.. خير من شعار وزارة التضامن الاجتماعي الذي تضعه في موقعها الإلكتروني والمستوحي من الآية القرآنية وهو (وآمنهم من خوف) وادعو الله أن يعينها علي أن تعمل به وتصرف معاشاً يخفف الاعباء عن كاهل الطبقات المحدودة تنفيذاً لوعد الرئيس مبارك، ليكفي أصحابه ويؤمنهم من الخوف ويحميهم من الحاجة وذل السؤال، لأن هؤلاء الناس وصلوا لأدني من حد الفقر بكثير، لكن لم يتعودوا مدأيديهم لأحد فكرامتهم فوق كل اعتبار ويجب أن تصونها الدولة قبل أي شيء آخر. داليا أمين