تنبني علاقات الدول بعضها وبعض علي المصالح المشتركة أولا، بعدها يمكن الكلام عن الروابط والتاريخ والحضارات واللغة وما شابه من فلسفات التقارب انتهاء بالهوية، وينطبق ذلك بالطبع علي العلاقات بين الدول المصنفة ديمقراطيا وتنمويا كعالم ثالث، وأيضا علي الدول التي تندرج تحت مصطلح المتقدمة، أو حتي بين دولة من هنا وأخري من هناك، فالمهم مصلحة الشعوب، وما تجنيه التحالفات ومد جسور العلاقات السياسية والاقتصادية إلا لهذا السبب، والحصيف في تقديري من يجني لشعبه أكثر عندما تشتد معارك الاختلاف السياسي أو يحتدم صراع الإرادات بين الدول. وفي محاولة للاقترب من الفكرة، أسوق نموذجا حيا من واقع العلاقات الأمريكية المصرية خلال الفترة من ثورة يوليو 1952 وحتي أزمة السويس 1956 والتي وصفتها كتابات المؤرخين والمحللين السياسيين القدامي بأنها كانت أشبه بلعبة الشطرنج بين طرفين، الزعيم المصري جمال عبد الناصر، ووزير الخارجية الامريكي جون فوستر دالاس، كان الأول خلالها تواقا إلى الزعامة علي أقطار الشرق الوسط العربي، بينما كان فوستر يحاول تقوية سلطة الولاياتالمتحدةالأمريكية عالميا، وقد اعتبر البعض هذه الفترة بداية تشكيل جذور العلاقات المصرية الامريكية، بعد أن تزايدت مصالح وطموحات أمريكا في المنطقة العربية بشكل كبير وخطير ، وباتت تؤثر علي مجريات الأمور سواء بشكل علني أو خفي، ساعدها في ذلك الوقت- ربما- ترحيب الحكومة المصرية باعتبار الوافد الأمريكي سيسهم في خفض ارتفاع تكاليف مستوي المعيشة خاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فضلا عن أنها اعتبرت الوجود الأمريكي ورقة ضغط في أي نزاع مرتقب بينها وبين بريطانيا، وقد أعرب الرئيس روزفلت - آنذاك - عن أمله في زيادة التعاون بين البلدين في جميع المجالات، زادت معه الطينة بلة حين سمح له الترحيب المصري بالتدخل في الشأن الداخلي، حتي أنه نصح الملك فاروق- بصيغة الأمر- بإجراء اصلاحات لمواجهة الدعاية السوفييتية، بما يمكن اعتباره تأريخا لبداية كسر الإرادة المصرية!! قريب مما حدث في الخمسينيات بالتدخل الامريكي في الشأن المصري، والتلويح صباحاً مساء بجزرتي المساعدات والدعم السياسي حين يحتاج الأمر الإذعان لإرادة واشنطن، حدث شبيهه و لعقود طويلة بعدها، حتي كانت ثورة 25 يناير حين سجلت ذاكرة التاريخ الحديث فوقان الشعب المصري علي خلفية اسقاطه عرش الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي استمر حكمه ثلاثين عاما، كما سجلت والحال كذلك التحول المصري الأخير وإصرار الشعب علي مواصلة الدفاع عن إرادته، وحقه في اختيار من يحكمه، أوعزله حين يحيد عن الأهداف المرجو تحقيقها فأسقط عبر ثورة جديدة في 30 يونيه الماضي عرش رئيس منتخب اكتمل عمره الرئاسي عاما بالكاد رغم الدعم الأمريكي لنظامه. وقد أكدت الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري للقاهرة، أن المصريين نجحوا دون ردة في إعادة صياغة إرادتهم علي رقعة الشطرنج التي تحرك واشنطن العالم علي مربعاتها كيف شاءت، وكشفت كذلك عجز إدارة واشنطن عن كسر هذه الإرادة التي لم يعد لجزرة المعونة أو عصا العقوبات أي ترغيب أو ترهيب، وهكذا وجدت الولاياتالمتحدة نفسها مكسورة الإرادة بفشلها السيطرة علي مصر كأهم مفاتيح منطقة الشرق الاوسط. زاد من احساس الإدارة الأمريكية بخيبة أمل كبيرة، قرار القاهرة مؤخرا بتدعيم العلاقات مع الدولة الروسية، ترتب عليه أن ألقي الرئيس فيلاديمير بوتين بثقله السياسي والدبلوماسي معلنا- والمملكة العربية السعودية- استعداده لمساندة مصر، بما أجبر واشنطن علي التراجع السريع الذي ترجمته زيارة كيري، في محاولة لترميم العلاقات وخاصة بعد صدمة الكونجرس الأمريكي الذي عقد جلسة استماع حول الوضع في مصر انتهت إلي أن نظام الرئيس المعزول محمد مرسي سعي إلي تأسيس الخلافة الإسلامية وفتح الحدود مع القاعدة، وأن الإطاحة به كان إجراء ضروريا لدي المصريين. علي رقعة الشطرنج حاولت واشنطن أن تزيح أهم قطعة لدي الشعب المصري وهي إرادته بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيه، فإذا بها تفشل فشلا ذريعا رغم رهانها علي كل قطع الترغيب والترهيب لتبدأ مصر مرحلة جديدة من البناء، مفتاحها دستور توافقي وانتخابات برلمانية ورئاسية شفافتين، وعهد جديد من الحريات والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية، لتعد المحروسة بإذن الله كما كانت .. سيدة "الرقعة". This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.