مازالت صورة المسلم المتعصب العنيف والشهواني الذي يهدد الحضارة الغربية متداولة إلى اليوم في دول العالم الغربي ، وقد صدر مؤخرا بالقاهرة ترجمة هامة أعدها الباحث السياسي شريف يونس لكتاب بعنوان "تاريخ الاستشرق وسياساته" مؤلفه زكارى لوكمان أمريكى من تيار مناهض للسياسات الكولونيالية، وفق ثائر الدوري بصحيفة " العرب اللندنية" ، ويشرح المؤلف كيف نظر الغرب للشرق الأوسط وكرس صورة نمطية عنه . مؤلف هذا الكتاب باحث مرموق, يعمل حاليا أستاذا في قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة نيويورك, وينتمي إلى تيار من الباحثين الأميركيين اليساريين الذين لعبوا دورا مهما في تطوير دراسات الشرق الأوسط, انطلاقا من موقف إنساني مكافح ضد تيار استشراقي ينتقص من العرب والمسلمين، وذلك على الرغم من أنه يهودي اسمه التوراتي زكريا لقمان . يقدم المؤلف مراحل تطور الاستشراق منذ القدم حتي لحظتنا الحالية، مع التركيز علي التطورات التي حدثت في النصف الثاني من القرن العشرين نتيجة الجهد العلمي لعدد من المتخصصين في دراسات الشرق الأوسط الذين واجهوا الرؤي ذات الميول الاستعمارية أو تلك التي عمدت إلي التعميمات والأحكام المطلقة سواء عن جهل أو عن سوء نية. يتكون الكتاب من سبعة فصول، يتناول المؤلف في الأول منها بداية معرفة الشعوب المسيحية, في أوروبا الآن, بالإسلام في العقد الثالث من القرن السابع الميلادي، حيث يرى أنها كانت معرفة مشوهة, ترى في الإسلام دينا وثنيا, باعتبار النظرة السابقة للعرب, وكانت نظرة عرقية أكثر منها دينية. وحتى نهاية القرن الثاني عشر ، وفق الباحث بدر محمد بفضائية " الجزيرة " ، لم يكن لدى الأوروبيين سوى فكرة غامضة تماما عن الإمبراطورية الإسلامية الواسعة, خاصة خلال أوج ازدهار العصر العباسي. واختار الكاتب علم الاستشراق تحديدا لأنه لعب دورا كبيرا بتاريخ السيطرة الغربية ، وفق " العرب اللندنية " نفسه ، وفى القرون الوسطى اعتبر الغربيون أنفسهم أحفاد اليونان القديمة فى عصرها الذهبى "400-500 ق. م"، واعتبرت الحضارة اليونانية المكون الرئيس لما أطلق عليه مصطلح "الحضارة الغربية". لكن الكاتب لا يوافق على هذا التماهى الغربى باليونان القديمة، فيذّكر الكاتب أن اليونان القديمة استعارت كثيراً من حضارتها من الفينييين ومن مصر القديمة، ويحيل بأحد الهوامش إلى كتاب "أثينا السوداء" الذى يقول بالجذور الأفرو– آسيوية للحضارة اليونانية الكلاسيكية، فثقافة اليونان القديمة لم توجد فى فراغ بل اعتمدت على ثقافات الشعوب الأخرى "مصر – حضارة الرافدين بلاد الشام". ووفق منصورة عز الدين بصحيفة " أخبار الأدب " فقد ذكر الكتاب ما يلي " المعروف أن اليونانيين القدماء اعتبروا أنفسهم شعبا متفوقا ثقافيا يحيط به برابرة أقل تقدما، وقصدوا بالبرابرة كل من يتكلمون لغة أخري بخلاف اليونانية، كما أنهم وبحكم صراعهم الطويل مع الفرس كونوا صورة متطورة تماما للشخصية الاجتماعية والسياسية لشعوب ودول آسيا، وهي صورة وظفها الأوروبيون الغربيون بعد زمن طويل لتدعيم التقسيم الثنائي الحاد بين الشرق والغرب كما يري لوكمان. كان الإغريق في كتابات فلاسفتهم ومؤرخيهم يقيمون تعارضا حادا بين أنفسهم وبين الآسيويين، حيث اعتبروا الخلافات الموجودة بينهم وبين الطرف الآخر اختلافات أصلية نابعة من طبيعتين مختلفتين كلية. وهكذا أكدوا أن الدول الآسيوية (مثل الإمبراطورية الفارسية أو مصر الفراعنة) يحكمها طغاة مستبدون لهم سلطة مطلقة علي سكان مستذلون، عبيد عمليا، ومجتمعهم هرمي وجامد، يكاد يكون عديم الحراك الاجتماعي ، مع وجود هوة هائلة، لا يمكن بأي حال عبورها، بين الحاكم والمحكومين. وربما كان المستبدون الآسيويون وحاشيتهم شديدي الثراء والقوة، ولكنهم أفظاظ وفاسدون وفاسقون. وفي مقابل هذه الصورة مال الإغريق لتصوير أنفسهم كقوم فاضلين متواضعين، يعتزون بحريتهم ويضعونها فوق كل شيء آخر. ثم يتابع الكاتب تطور فكرة ( شرق أم غرب ) وصولاً إلى الفكر الغربى الحديث، فيشير إلى أنه بعد انقسام الإمبراطورية الرومانية، التى يعتبر الغرب نفسه سليلها "لنتذكر أن أكثر التشبيهات شيوعاً اليوم هو تشبيه الإمبراطورية الأمريكية المعاصرة بالرومانية البائدة". بعد انقسام الإمبراطورية الرومانية، إلى شرقية مركزها القسطنطينية، وغربية مركزها روما تم استبعاد الشرقية من الفكر الغربى واعتبرت شرقية، أما الرومانية فاعتبرت وريثة لليونان القديمة وهى سلف للغرب المعاصر، كما وُضع فى أوربا تصنيف للعروق البشرية يعتمد على الأناجيل، فنُسبت القارات إلى أبناء نوح، فيافث وذريته مع أوروبا، وسام مع آسيا، وحام مع أفريقيا. واندمج هذا التصور مع تصور التفوق الأوروبى "ليفتح الله ليافث فيسكن فى مساكن سام"، "العهد القديم 9:27". "ملعون كنعان عبد لعبيد يكون لأخوته" 9:25. ومن هنا بدأ تصنيف الحضارات والشعوب بشكل هرمي. فوضعوا أوروبا على قمة الهرم. ثم يبدأ المؤلف بمناقشة صورة المسلمين فى أوروبا، فظهور الإسلام اعتبر ككارثة مطلقة، وفى البداية اعتمد الأوروبيون على المنقولات الشفهية، والنتيجة قدر كبير من التخيلات والأوهام والتشويه والصور النمطية. كما فشلوا بإدراك ان الاسلام ديانة توحيدية بل ظل المسلمون فى المخيلة كوثنيين، ثم جاءت الحروب الصليبية وبدأ معها مفعول عبارة "اعرف عدوك"، لكنها معرفة من اجل السيطرة والإبادة، فنُقلت النصوص العربية إلى اللاتينية، وتُرجم القرآن، وبدأ اشتباك مع تراث العرب والمسلمين فى الطب والفلك والرياضيات والفلسفة، وأهم شخصية حازت على إعجاب الغرب هو صلاح الدين فصور كفارس وإنساني، لكن وجدت أساطير تقول إن أمه كانت مسيحية، أو أنه تحول إلى المسيحية وهو على فراش الموت. كما بُذلت جهود للتحالف مع المغول ضد الإسلام، لكن المغول أسلموا فى النهاية وهذا ما أدى إلى خيبة أمل فى إمكانية تدمير الإسلام عسكرياً، وبعدها صعد العثمانيون، وكانت علاقتهم بأوروبا محكومة بالسياسة وليس بالدين، واعتبر ميكافيللى هذه الدولة نموذجاً أعلى للدول، وفى هذا الوقت بدأ يظهر فرع متميز من الدراسات الإنسانية ركز اهتمامه على الشرق الذى أطلق الأوربيون عليه اسم levant. ومنذ القرن الحادى عشر صار الإسلام آخر أوروبا، وليس الصين أو الهنود، فقد اعتبر الإسلام رغم قربه الجغرافى أكثر غرابة ومثيرا ًللاشمئزاز والعداوة. وتدريجياً بدأت جامعات ومعاهد أوروبا باستحداث مناصب لباحثى ومعلمى اللغات الشرقية، كما نشرت دراسات وترجمات للإسلام، ظلت مشبعة بالموقف الإزدرائى تجاه الإسلام، الموروث من العصور الوسطى، وفى القرن التاسع عشر صار اسم هذا العلم الإستشراق. ويحتل الإسلام مركزاً رئيسياً فى الإستشراق لأن معظم المنطقة بين أوروبا والصين يغلب عليها الإسلام. عند نهاية القرن السادس عشر بدأت تحل محل المواقف المادحة للعثمانيين، الذين اعتبروا بداية ظهورهم رمزا للفروسية والرجولة، بدأت تحل وجهات نظر أقل إيجابية، وتحول ما كان يعتبر فضائل إلى عيوب، فصار الأتراك يعتبرون أجلافاً جهلة مدعين للشرف والأخلاق. وهذا التبدل مرتبط بالتطورات العثمانية إذ تراجعت قوة الدولة وبدأت تنهزم عسكرياً. كما أن تطورات أخرى حدثت داخل أوربا فقد أصبحت الدول الأوربية أكثر مركزية وبقرطة وقوة تحت تأثير الإصلاح الديني، فصارت الدولة العثمانية نموذجا أصلياً لما يسميه الغربيون "الإستبداد الشرقي". أما النظرة للغرب فظلت على أنه حضارة متماسكة لم تتأثر بالعوامل الخارجية منذ الحضارة اليونانية القديمة وبعد عشرين قرناً وصولاً إلى إعادة بزوغها وتفتحها فى العصر الحديث فى أوربا الغربية فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر. ويتناول المؤلف في الفصل الثالث تأثر الأوروبيين إيجابيا بالإسلام والمسلمين مع انتشار عملية الهيمنة في القرنين ال19 وال20 على البلاد الإسلامية من قبل أوروبا المسيحية, ويؤكد أنه رغم الهيمنة لم يكن هناك قط موقف أوروبي موحد بالكامل تجاه الإسلام ولا المسلمين ولا الشرق ولا الاستعمار. في الفصل الرابع يتحدث المؤلف عن الولاياتالمتحدة التي أصبحت قوة عالمية عظمى بعد الحرب العالمية الثانية, في الوقت الذي بدأت فيه الدراسات والأبحاث الأكاديمية في أميركا تركز على الشرق الأوسط, وتزيد من الدراسات حوله, أكثر من الدراسات التي يعدها الأوروبيون. وكان للحكومة الأميركية الدور الأكبر في دعم هذا التوجه, حيث أنفقت عليه بسخاء, في الوقت الذي شهدت فيه منطقة الشرق الأوسط تغيرات اجتماعية وسياسية سريعة. ثم يتابع المؤلف أسباب انغماس الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط، ومنها الاستيلاء على ممالك الاستعمار الفرنسي والإنجليزي والإيطالي في المنطقة, ومنها الصراع العربي الإسرائيلي وظهور البترول وأهمية المنطقة إستراتيجيا. في الفصول الثلاثة الأخيرة يتناول المؤلف تطور دراسات الاستشراق, وظهور تيار يساري بين الباحثين الأميركيين والأوروبيين يرفض النزعات العنصرية والمقولات الجاهزة السابقة والأبحاث غير الموضوعية, ويطالب بإعادة دراسة الشرق الأوسط على أسس مختلفة. بل إن المؤلف يضرب وفق " العرب اللندنية " أمثلة فجة على فكر الاستشراق مثل مقولات أرنست رينان الذي اعتقد في محاضرة بالسوربون بعنوان " الإسلام والعلم " أن الدول التي يحكمها الإسلام تعيش خواءا فكريا وانحطاط ، أما عبقرية الفلاسفة والعلماء الإسلاميين في العصور الوسطى فيرجعها للتأثر بالحضارة الفارسية القديمة والمعارف اليونانية لديهم ، بل إنه يختتم بأنه موافق على استعمال القوة العسكرية فى احتواء أو إخماد المقاومة ضد الاستعمار. ويوضح المؤلف في الكتاب كيف ساهم المستشرقون في خدمة الساسة وأغراضهم ، فعلى سبيل المثال عاون المستشرقون الروس السياسيون أثناء اجتياح روسيا القيصرية للقوقاز ولآسيا الوسطى. ويقول: "يجب أن لا نفاجأ بأن كثيرا من المستشرقين سلموا بتفوق الحضارة الغربية وحق الأوربيين فى حكم الآسيويين والأفارقة".