محمد هشام : خطاب المسيري حارب إسرائيل بالفكر .. وانتصر الدخاخني : مفكر بارز لكن خطابه "تضليلي" في نقد ما بعد الحداثة ! بفيلم "المسيري .. رحلة من أجل الإنسان" ، افتتحت مكتبة الإسكندرية مساء أمس مؤتمرها والذي وضعت له عنوان " عبدالوهاب المسيري وجدالات الهوية والحداثة" ويستمر حتى مساء اليوم. حضر اللقاء زوجة الراحل وعدد من تلاميذه ومساعده الدكتور محمد هشام والباحثان محمد عمر ومحمد الدخاخني . وقال الدكتور خالد عزب أنه للأسف هناك عشرات الأسماء التي تدعي أنها عاونت المسيري لإعداد موسوعته بينما الحقيقة أنهم فقط اقتربوا منه وتعلموا وهو شخصيا بينهم. من جانبه أكد الدكتور محمد هشام، أستاذ الأدب الإنجليزي والذي كان أحد أبرز معاوني المسيري في موسوعاته، أن الراحل كان يقف في موقف المتسائل دوما ويفتح نصه الأفق لإجابات متعددة، وكان ذلك واضحا منذ بدأ طرح كتابه "نهاية إسرائيل" و"موسوعة المصطلحات الصهيونية" في السبعينات ثم موسوعته الشهيرة "اليهود واليهودية والصهيونية" التي تشمل ثماني مجلدات ووانتهى منها المسيري بنهاية التسعينات، ورغم الجهد الخارق الذي بذله فيها إلا إنه وصفها في المقدمة بأنها مجرد خطة عمل مفتوحة للباحثين ليكملوا الطريق وأنها تطرح تساؤلات أكثر منها تعطي إجابات نهائية ، في تواضع وأمانة علمية اتسم بهما طيلة حياته. وقد انحازت الكتابات عن الصهيونية قبل المسيري في الخمسينات والستينات إما للخطابات العاطفية التعبوية ضد الكيان الصهيوني أو للخطابات القانونية التي تثبت خرق إسرائيل للمواثيق الدولية وهي مسألة لا تحسم الصراع بأية حال، وهناك الخطاب التآمري الذي يجعل إسرائيل جزء من مؤامرة غربية كبرى ضد العرب خصوصا والشرق عموما، وكل ذلك حقيقي وصحيح ولكن المسيري فضل فضح الكيان الصهيوني فكريا وأثبت أنه حتى مناهض لأصول الديانة اليهودية التي ترفض العودة لأرض الميعاد "فلسطين" – بحسب المعتقد اليهودي – قبل ظهور المسيح المخلص في آخر الزمان. وأشار "هشام" إلى خطيئة تداول كتب مزورة مثل "بروتوكولات حكماء صهيون" والاستناد إليها، وهو ما حذر منه المسيري أيضا حين أكد أنها كتب تجعل إسرائيل مهيمنة عسكريا وعلميا وسياسيا واقتصاديا ومؤامراتها نافذة لا محال في جسد العرب وبالتالي ليس أمامنا إلا الانصياع! أما عن كفاح المسيري فأشار هشام لما واجهه من حروب لوقف موسوعته عن الصهيونية في السبعينات ثم في التسعينيات، وتعرض لتضييقات في مؤسسة الأهرام، كما تعرض لتجاهل الإعلام حتى السنوات الأخيرة من حياته . المصطلحات أيضا جانب هام من إبداع المسيري تحدث عنه المحاضر، وفي هذا المجال فقد رفض التسليم فالمصطلحات التي صكتها جهات غربية أو حتى عربية بدون تحليل ونقد، وهو مثلا يرى أن ال"كيبوتس" وهو مصطلح يعني المستوطنة الصهيونية الزراعية التعاونية أو التي تقوم على أسس اشتراكية، ولاحظ المسيري أن الحقيقة أنها مستوطنات عسكرية زراعية لكن لا صلة بالاشتراكية ، كما طال بنقده مصطلح "اليهود" نفسه، فرأى أنه من الخطأ اعتباره يعبر عن وحدة عرقية لأن اليهود مختلفون تماما بحسب الزمان والمكان، فيهود بولندا مثلا في القرن التاسع عشر لا علاقة لهم بيهودها الحاليين ولا أي يهود آخرين، بل وفي داخل المكان الواحد كإسرائيل تجد أن اليهود المنحدرين من أصول شرقية لا علاقة لهم بأولئك المنحدرين من الغرب وهكذا. تحدث المسيري أيضا في هذا الإطار عن الجماعات اليهودية غير الصهيونية، أو التي تعترض على ممارسات إسرائيل وعلى وجودها من الأصل في أحيان كثيرة، وهناك جماعات أخرى من اليهود حول العالم صلتهم الوحيدة بإسرائيل هو دفع تبرعاتهم لها وهم ليسوا مستعدين مطلقا للهجرة إليها وتحمل تبعات ذلك على حياتهم. كما كان المسيري رائدا حين وضع نموذج الجماعة الوظيفية لفهم وتحليل الظواهر المحيطة بنا، وحين طبقه على الكيان الصهيوني وجد أنها منطبقة تماما، فالإسرائليون يقومون في منطقتنا بالدور الذي ترفض شعوب أوروبا وأمريكا القيام به، وهم مثل الخادمات الفلبينيات في بلاد الخليج مثلا. وقد قامت إسرائيل بإيعاز من أمريكا وأوروبا بهدم المشروع الناصري وضرب المفاعل العراقي وأدت الأدوار القذرة التي لا تحب القوى الكبرى القيام بها . أخيرا، أكد محمد هشام أن المسيري كان يرفض التعميم ويرفض التصنيف تحت أية راية، ولهذا ظل مختلفا وكان في شبابه كما يصف نفسه "ماركسيا على سنة الله ورسوله" وحتى حين تحول للفكر الإسلامي كان غير تقليدي، وبالتالي فهو لم يلجأ للقطيعة المعرفية . نقد رؤية المسيري للفكر الغربي دارت ورقة "محمد الدخاخني" حول المسيري والحضارة الغربية وقد قدم الباحث قراءة لنقد المسيري في ما بعد الحداثة ، وقد صك مصطلحات لوصفها مثل "المرحلة البراجماتية" و"الاستهلاكية" و"اللاعقلانية" و"المادية السائدة" وهي مصطلحات فعالة من حيث أن علامة تيار ما بعد الحداثة كنيتشة وجودريار ولكنه – أي المسيري - يقمع قراءات ما بعد حداثية تتخذ من العقل كجوهر حداثي وتزحزحها لنواح إشراقية وروحانية لتتعاطف بأثر رجعي مع فلاسفة قدامى وصوفيين مسلمين باعتبارهم تفكييكين ، مثلما فعل إيان ألموند مع بن عربي وكما فعل عبدالحكيم سروش مع جلال الدين الرومي وقراءات طارق عبدالرحمن، وبالتالي يبقى التفسير المسيري أسير التجربة ما بعد الحداثية الغربية حتى في نقده لها ، وهو يرى أن منتجات الحضارة الغربية في مرحلة السيولة تقوض ليس فقط المجتمعات العربية ولكن الغربية أيضا وتهدد هويتها وتماسكها ، وهو يضللنا حين يغفل أطروحات الخصوصية في إطار الاختلاف أو بتعبير آخر لديلوز "التدمير الطريف". ويؤكد المسيري أن الما بعد حداثيين يروجون إلى أنهم يدعون للمساواة والتعددية، ولكنهم في الحقيقة يدعون للتسوية وهدم كل شيء وكل معيار وناظم أخلاقي لتسود النسبية الكاملة واللايقين، وهم مثلا يرفضون التنميط ويرفضون دعاوى حقوق الإنسان باعتبارها لا تؤمن بالتنوع! . وتشير الورقة لنقد المسيري دعوة ما بعد الحداثيين للتفكير في الأيديولوجيات الشاملة والدعوة للتفكير بالجزئي واليومي واعتراضهم على التركيز بالكليات والمباديء والفلاسفة . ويؤكد الدخاخني أن رؤية المسيري هنا تضليلية لأن هؤلاء المفكرين لم يهتموا بالتسوية ولا المساواة من الناحية الثقافية وإن كانوا فعلا رافضين للمعيار ، أضافوا لذلك إعلاء الفطري والخصوصي والعرفي ولكنهم في عرف المسيري قفزوا نحو نشر الفن المقزز وتفكيك الأسرة وإدخال شعوبها لمخاطر الشذوذ الجنسي والفوضى الشاملة وهذا غير دقيق . يواصل الباحث : حين انتقد المسيري جاك دريدا الفيلسوف الفرنسي يرى أن هامشيته جعلته مرشحا ليكون فيسلوف التفكيك الأول، فهو فرنسي ولكنه من اصل جزائري وعضو بجماعة فرنسية وهو لا يؤمن باليهودية ومع هذا فهو يهودي سفاردي ويشير لديانته دائما . وبالتالي فهو يتعامل مع دريدا كمريض يحتاج لعلاج سريري على أفضل حال كما يرى الدخاخني، وهو ما يطرح تساؤل حول مفكرين آخرين تعرضوا للشتات كادوار سعيد الذي أفاد منه المسيري نفسه ، وقد انتقد الدخاخني النقد الأنثربولوجي الذي اشتغل عليه المسيري، وهو ما جعل طبيعيا أن عرض المسيري فوكو كشاذ جنسي ذهب لسان فرانيسسكو ليمارس علاقة ماذوكية مع فحل أمريكي ! وهو بذلك يسمره بشكل سكوني وتعليبه في جملة واحدة أنه يؤمن بميتافيزيقا الصراع . وظل المسيري على يمين ناقدي الحداثة وعانى من النوستالوجيا أو الحنين للماضي حيث كان لديه شبق بفن عصر النهضة رغم نقده لهذا العصر وهو يزيد من النظرة الأخلاقية غير المؤصلة . والمسيري حين يروم نقد الحداثة يجلب أطروحات الحداثة، وهو على طريقة "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين" كما انتقد الباحث عدم ثبت جميع أعماله بالمراجع الكافية. يقول الدخاخني : كان المسيري لديه موقف نقدي من الذاتية وقد ابتكر المسيري مصطلحات "غير ذاتية وغير موضوعية" ليخرج من تلك الثنائيات ، فقد كان يرفض التعميم وكان يرى أن الإنسان لا يمكنه ان يكون محايدا بشكل كامل إزاء كل القضايا أو يشبه الورقة البيضاء لأن ثقافته وبيئته والظروف التي يحياها تؤثر فيه إضافة لنشأته وطبيعته الفطرية . ويؤكد الباحث أخيرا أن كل ما سبق لا يعني الانتقاص من المسيري كواحد من أهم المفكرين العرب بالعقود الأخيرة، واختتم حديثه بمقطع من قصيدة لمحمود دوريش "اقرأ خلاصتنا وانسى .. وابتديء من كلامك الجديد " يذكر أنه ردا على تساؤل "محيط" أكد المتحدثون بالمنصة أننا لا يمكننا استخلاص نموذج معين قدمه المسيري لحل إشكالية الإسلام السياسي خاصة بعد التغيرات الأخيرة .