صدر عن "منشورات كارم الشريف" لصاحبها الإعلامي التونسي كارم الشريف كتاب "مناقب السيّدة عائشة المنّوبية" لأبي العبّاس أحمد التّادلي، بعد أن تم تحقيقه تحقيقا علميا أكاديميا أنجزه الأستاذ الجامعي محمّد الكحلاوي، وقدّم له الأستاذ توفيق بن عامر، وأنجز ترجمة لملخّص هذا التحقيق إلى الفرنسية الشاعر محمّد الخالدي. وجاء الكتاب الذي يضم 230 صفحة في طبعة أنيقة جدا من الحجم المتوسّط أشرف على تنفيذها فنّيا الفنان التشكيلي التونسي حسين مصدق بمشاركة إبراهيم بن هقي، وقام بمراجعتها لغويا الأستاذ محمد الثابت، وطبع بمطابع "المغاربية للطباعة وإشهار الكتاب"، وتقوم بتوزيعها "الشركة التونسية للصحافة" داخل تونس وخارجها.
و قد مهّد المحقق- الأستاذ محمد الكحلاوي- لهذا الأثر جملة من الدراسات والبحوث العلمية والمقاربات الفكرية التي تسلّط الضوء على حياة الوليّة الصالحة عائشة المنّوبية وبيئتها الحضارية التاريخية ممثّلة في فجر العهد الحفصي (ق 7ه/ 13م)، وأنجز مبحثا علميا هامّا حول تصوّف السيّدة عائشة المنّوبية وطبيعة حياتها الروحية التي ارتبطت بالذكر والعبادة والصلاح والتأمل وا لتروحن، وإيثار العمل الصالح على ما دونه، ومساعدة الفقراء وذوي الحاجة وإغاثة المظلومين والضعفاء في وجه الطغاة وذوي السلطان.
كما رصد المحقق دلالات أقوال السيّدة عائشة المنّوبية وأبعادها المعرفية والأنطولوجية، إذ بيّن كيف أنّ هذه الوليّة عاشت تجربة صوفية روحية عالية المقاصد جسّمت عبرها قيم المحبّة الإلهية والإخلاص الصوفي في عبادة الله وذكره والإحسان إلى الخلق ودفع السيّئة بالحسنة، وهي من ثمّ تنخرط بتجربتها هذه ضمن نسق الفكر الصّوفي العالم كما جسّمته شخصيات كبار الصوفية مثل الحلاّج والنفري ورابعة العدوية والجنيد بالمشرق وأبي مدين والشاذلي وأبي علي النفطي والمهدوي والسبتي بالمغرب بل إنّ شخصية عائشة المنّوبية مثّلت علامة فارقة في مسار تصوّف النساء الصّالحات المغربيات لكونها المرأة الصوفية الوحيدة المغاربيّة التي خصّها كتّاب المناقب ومدوّني أخبار الأولياء والصالحين بنصّ منقبي هام إضافة إلى قصائد ونصوص مديح (أمداح) كثيرة تظهر خصالها وتجسّم رسوخ قدمها في الولاية والصلاح.
ولهذه الاعتبارات عقد المحقّق مداخل نظريّة هامّة بخصوص مكانة المرأة في التصوّف الإسلامي ضمن فصل "الأنوثة في الخطاب الصوفي" حيث إنّ الأنثى بإمكانها أن تصل إلى أعلى المراتب في الولاية والعرفان والفضيلة التي يصطلح عليها لدى الصوفيين ب : "مرتبة الانسان الكامل" والتي يجسّمها "القطب" أو "الغوت".
إن هذا التحقيق لمناقب الولية الصالحة عائشة المنّوبية خطوة هامّة في طريق تحقيق كنوز تراثنا الحضاري والثقافي ولبنة متميّزة من لبنات إصدار نصوص الموروث الصوفي وأدب المناقب الذي تزخر به خزينة المخطوطات بالمكتبة الوطنية التونسيّة ولم يصدر بعد، ولئن اهتمّ الباحثون بدراسته تاريخيا وأدبيا وحضاريا في جوانب كثيرة فإن التحقيق لم يشمل إلاّ النزر القليل، ومن هنا قال الأستاذ توفيق بن عامر في المقدمة التي وضعها لهذا الكتاب: إنّ الأستاذ محمّد الكحلاوي في تحقيقه لهذا الأثر النفيس اعتمد على سعة اطّلاعه وغزارة ما كُتب في الموضوع، وهو الذي أعدّ أطروحة دكتورا باشرافنا حول الفكر الصوفي بإفريقيّة وأنجز تراجم للصوفية والأولياء نشرت تباعا بالموسوعة العربيّة لأعلام العلماء العرب والمسلمين التي تصدرها (الألكسو).
وهكذا فإن محقق هذه المناقب وُفّق في ما رسمه هدفا أساسيّا لعمله حين قال: "لقد كان هدفنا الأساسي من وراء هذا الجهد تحقيق نصّ مناقب السيّدة عائشة المنّوبية تحقيقا علميا، ومقاربته مقاربة نسقيّة معرفيّة تكشف عن سمات تجربة متفرّدة في تمثّل المعتقد الديني واستبطان معانيه الفكرية الوجودية وأبعاده الجمالية الإتيقيّة استبطانا روحيا عميقا يتجاوز السائد والمألوف وينفتح بالمقدّس على الذاتي واليومي... إنّها قبسات وإشارات من التجربة الصوفية، تلك التي اكتوى الخائضون فيها بنار المحبّة الإلهية، وتسامت أرواحهم، فأصابت الدهشة عقولهم حين تجلّت لهم بيارق الحقّ ولمعات الجمال...:"