سلسةُ مقارباتٍ ثقافية للحال المصرية بعدَ ثورة يناير2011 م. حقًا إنَّهُ فجرٌ جديدٌ، وعدَ به الخامس والعشرون من يناير2011 م، لكنْ ثمَّة ندوبٌ في جبينه نخشى أن تتفاقمَ مضاعفاتها. الحلقة الثانية: الخطاب الليبرالي المصري و إشكالية الديني/ المدني (1 من 6 ) مفتتح تحدثنا في الحلقة الأولى من هذه المقاربات حول أسباب اختيار الندوب عتبةً للدخول لمقاربة واقع سياسي ثقافي اجتماعي نحلم بتغييره يومًا ما. وهنا نصوغ السؤال المتعلق بالجزء الثاني من العنوان، أي بشكل ونوع المقاربات، فنقول: لماذا الثقافةُ شرطًا لمقاربة السياسة، بل ولماذا الثقافة شرطًا لمقاربة الواقع الاجتماعي والسعي نحو تغييره؟ وتعليل ذلك يكمُنُ في عددٍ من العوامل التي نومضُ لها فيما يلي: على وعدٍ بالوقوف على أهمها بالتفصيل في حلقة خاصة من حلقات هذه المقاربات نفردها لذلك: أولها: هو ما للثقافة من دورٍ في تغيير بنية الوعي وتدشين رؤى التنمية وصياغة الفلسفة الاقتصادية عبر مراحل التطور المختلفة، وعلاقة كل ذلك في النهاية بالخطاب الحاضن للرؤية وللفلسفة وللوعي الذي تقومُ من خلاله الرؤية والفلسفة في الذهن قبل أن تترجم إلى خطوات عملية على أرض الواقع. وكما تخبر الذاكرة الشعرية لأمتنا أمَّة ( اقرأ ): بالعلمِ والمالِ يبني الناسُ ملكهمُ لم يبنَ ملكٌ على جهلٍ وإقلالِ وقد يقولُ قائلٌ: الشاعر يقولُ: بالعلمِ والمالِ يبني الناسُ ملكهمُ. ولم يقل بالثقافةِ مثلاً- يبنى الناسُ ملكهمُ. وللإجابةِ على هذا السؤالِ نقولُ إذا كان العلمُ هو المعرفة المؤسسة على المنهج، والمدعومة بالنظريةِ التي هي مؤسسةٌ على الفروض التي تحققت عمليًّا وثبتت صحتها، وإذا كان الفرض هو بداية النظرية فإن الذي يقيم الفرض في الذهن هو الفكرة وكونُ العلمِ نظريةً، وكونُ النظريةِ تعميمًا وكونُ التعميمِ مؤسسًا على الفروض الثابتة صحتها بالتجربة فإن الفكرةَ إذًا سابقةٌ على النظرية، وهذا يعني أن أي مُنْجزٍ علميٍّ كان - في الأساس - فكرةً في عقل منْجِزهِ، والأفكار هي ربيبةُ الثقافةِ وبنتُ العلم. ولمَّا كانت كذلك، فإنه لا يمكن أن يكون هناك علمٌ في مجتمعٍ من المجتمعات قبلَ أن تكون هُنَاكَ ثقافةٌ حقيقيةٌ فاعلةٌ تُنْتِجُ الأفكارَ التي ينتج منها العلم وتتكاثر عبرها النظريات العلمية. ثمَّ إن العلم بلا أخلاق هو مطيةٌ نحو الفشل: والعلم إن لم تكتنفه شمائلٌ تعليهِ كان مطيةَ الإخفاقِ لا تحسبن العلمَ ينفع وحدهُ ما لم يتوج ربُّهُ بِخَلاقِ هكذا قالت ثقافتنا العربية المؤسسة على تراثٍ لم تنفصم عراه عن قرآنها وسنتها، ولمَّا كان في حكم الضرورة أن تحتضن الأخلاقُ العلم، ولمَّا كانت الأخلاق في الأصل بنت الثقافة وغِراسَها، فلابدَ أن تكون هناك ثقافةٌ فاعلةٌ وخطابٌ ثقافيٌّ فاعلٌّ يحتضن الأخلاق بوصفها الركيزةَ التي تُوَجِّهُ مسارَ العلم في الاتجاه الذي يخدم البشريةَ ولا يضرُّ بها. هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ مبادئَ وأخلاقَ مثل: احترام العلم، وتقدير العلماء، والإيمان بالعلم منطلقًا للحضارة، كل هذه ومثلها هي في الأساس مرتكزات ثقافية تتشكل في مجتمع العلم قبل أن يكون كذلك. ولذا حُقُّ للعقل وللمنطقِ هنا أن يقولَ بأهميةَ الثقافة مستهلاً للتطور العلمي في أي مجتمعٍ من المجتمعات. وثانيها: القلق الذي ينتاب طارح المقاربات من عدم وضوح العلاقة بين الثقافة وأطروحات التنمية المقدمة حتى لحظة كتابة هذه السطور في مجمل البرامج الرئاسية المطروحة مِنْ قِبَلِ مرشحي الرئاسة في مصر، بل القلق من احتمالية عدم فهم كثير من المرشحين لطبيعة وأهمية العلاقة بين المرتكزات الذهنية الخمسة: الثقافة، والرؤية، والفلسفة، والخطاب، والوعي المشار إليها في البند السابق، مع العلم أن فهم مثل تلك العلاقة هو الركيزة الأساس لصياغة خطاب تنموي لا تعوقه مطبات الواقع وعقباته المحتملة. وثالثها أهمية وعظمة الدور الذي يمكن للمثقف أن يلعبه في بناء منظومة التنمية. ونقصد بالمثقف هنا المثقف العضوي الذي تكلم عنه غرامشي، ومارس دوره، ذلك المثقف المسكون بالهواجس الحضارية لأمته والمعجون بهموم المجتمع وقضاياه، صاحب الموقف المنحاز للبسطاء والمهمشين والأقليات حتى وإن كلفه موقفه هذا الدخول في مواجهاتٍ ومعاركَ طاحنة مع السلطة في كثيرٍ من الأحيان مثلما حدث مع غرامشي نفسه الذي حفر مفهوم المثقف العضوي الذي أشرنا إليه. إنَّهُ المثقف الذي مارس دوره التاريخي في إقرار قيم العدل والحق والتسامح الاجتماعي، فكان سببًا وركيزةً من ركائز النهضة والتنمية في أوروبا الحديثة. الخطاب الليبرالي المصري و إشكالية الديني/ المدني 1- ملمحٌ تاريخي - لم تولد هذه الإشكالية فقط فيما بعد التاريخ المذكور ولكنها ضاربة بجذورها منذ البدء في اقتفاء الليبراليين العرب جميعهم للتجربة الليبرالية الغربية، أي منذُ تشكلِ ملامح الخطاب الثقافي والفلسفي العلماني الغربي الذي كان إرهاصًا لأوروبا العلمانية. هذا ويجدر بنا أن نشير إلى أنه على الرغمِ من أن مفهوم العلمانية قد نحته هوارد بيكر في الغرب في ضوء خروج المجتمع الغربي على الاستبداد الكنسي، إلا أن العلمانية كتجربة، وكفكر وكممارسة ضاربةٌ في جذور البشرية إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، فقد أعلن أبيقور (341-270 ق.م) الفيلسوف اليوناني دعوته إلى العلمانية عندما قال بأن الإلهة غير معنيين بشئون البشر ولا يهمهم ما يجري في هذا العالم، ويجب النظر إليهم بوصفهم مُثُلاً عليا فحسب. 2 - مُدْخَل في تفنيد إسلاموفوبيا الخطاب الليبرالي المصري: للوقوف على واحدٍ من أهم أسباب هذه الإشكالية /الثنائية وهو باعث القلق الذي ينتاب الخطاب الليبرالي المصري من نظيره الإسلامي على الحرية/الحريات العامة - نقول بدايًة: إن الخطاب الإسلامي الذي يُتَخوف منه كثيرًا- بهذا الشأن - سيطور نفسه حتمًا (وفق منطق التطور الطبيعي التلقائي للفكر، خاصةً إذا سادت سماء الفكر المصري أجواء الحرية وهذا ما نحلمُ به) خلال المرحلة المقبلة تحت وطأة فسيفساء الفكر والثقافات المختلفة التي تجتاح العالم في ظل ثورة المعلومات والاتصال والإعلام الجديد، تلك الفسيفساء التي لا تقبل من منطلق العلاقات بين الثقافات المختلفة المشارب سوى بمنطق المحايثة. لذا لم يعد هذا التخوف مبررًا (في ضوء انحسار الفكر المتشدد ذي المنطق التكفيري الذي شكّل الركيزة الأهم والمبرر الأقوى للحكم المطلق في العالم العربي الذي كان المستفيد الأول من ظاهرة العنف التي قدمت للمستبدين العرب مبررات تطبيق قانون الطوارئ وحيثيات كبت الحريات على طبقٍ من ذهب) اللهم إلا إذا أصر الخطاب الإسلامي على نظرته للحداثةِ بوصفها شرًا محضًا لا خير فيه، وإذا استمر على رفضه لهذا المنطق، وبذلك سيعطي المتخوفين المبرر الكامل لهذا الخوف ساعتها. 3- في تفكيك ازدواجية الخطاب الليبرالي، وإصراره على التحليق خارج نطاق السرب الجماعي للأمة: تحدث ولا يزال يتحدث الليبراليون المصريون عن خوفهم من أن ينفرد توجه بعينه أو اتجاهٌ بعينه بالحكم والإدارة وترسيم ملامح الهوية المصرية خلال القادم من الزمن (مع التحفظ الكبير على النظر إلى الإسلام وقيمه التي ينادي بتحكيمها التيار الإسلامي بوصفهما - الإسلام وقيمه - اتجاهًا، فيما يقتضي التفكير العلمي النظر للإسلام بوصفه هويةً، لا اتجاهًا، وهذا هو رأس المنطق السليم في التفكير، وذروة سنامه). ويرتكز الخطاب الليبرالي هنا في هذه الحال على حجة الحفاظ على حقوق الفرد وحقوق الجماعات صاحبة الاتجاهات الأخرى من يساريين وعلمانيين واشتراكيين وما إلى ذلك. وهو في ذلك الخوف، وتلك الحجة إنما يناقض مذهبه الديمقراطي الداعي لحرية الفرد واحترام الاستفتاءات العامة التي تعد واحدةً من ممارسات العملية الديمقراطية بالأساس؛ فكيف لا يعترف منتسبو هذا الخطاب بنتائج استفتاء التعديلات الدستورية، ساعينَ في ذلك إلى الحجرِ على إرادة الأمة التي قالت كلمتها في استفتاءٍ يمثل باكورة العمل الديمقراطي المنتظر خلال المرحلة القادمة، بل كيف لنا أن نفسرَ سعي هذا الخطاب نحو تدشين وثيقة فوق دستورية تقيد رؤية الأغلبية المتوقع لها أن تصل إلى البرلمان والمنوط بها بعد ذلك اختيار لجنة من الدستوريين مهمتها تعديل الدستور جذريًّا، وكيف نفسر إصرارهم على التحليق خارج السرب ( تحت مبدأ فيها يا إمَّا أخفيها) في مُجْتَمَعٍ يُمَثِّلُ التعايش والمحبة قيمًا جوهريةً في ثقافته، فلا يروق لأفراده الاستمتاع بِمنَحِ الحياةِ العظيمةِ والجليلةِ إلا مع الجماعة ومن خلالها أو هكذا يجب أن يكون أفراده، متمثلين قيمهم الحضارية الضاربة في جذور الوعي الجمعي للأمة، الوعي الذي أنتج هذا القولَ العظيم َوأمثالهُ: ولو أنِّي حُبيتُ الخُلدَ فردًا لما أحببتُ بالخُلدِ انفرادا فلا هَطَلَتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تَنْتَظِمُ البلادا ويستمر السؤال لماذا التحليق خارج السرب؟! لماذا الرغبة في الإقصاء بزعم الحرية والخوف على حقوق الآخر؟ ثم لماذا البقاءُ مع السِّرْبِ لحظة التوافق والاتفاق - وهذا ما تجلى بوضوح في ميدان التحرير قبل تنحي المخلوع – ثمَّ الرغبة في التحليق خارجه وإعاقةِ سيرِهِ عند الاختلاف؟! (للحديث بقية). * شاعر وكاتب من مصر.