اختارت لجنة الفلسفة بالمجلس الاعلي للثقافة "العلمانية" موضوعا لاولي ندواتها في تشكيلها الجديد، وهي الكلمة التي نالت حظا وفيرا من اللغط تارة والتشويه تارات اخري، ليس فقط من قبل العامة، ولكن ايضا من قبل من يطلق عليهم "المثقفون" أو" النخبة "، حتي اضحت كلمة "سيئة السمعة"، تصم من يدعو اليها، أو يعلنها نهجا له.. المفكر د. حسن حنفي - مقرر لجنة الفلسفة- أوضح في بداية حديثه أن هناك الفاظاً أصبحت" مشاعا" بين الناس والكل يستخدمها دون الوعي بمعناها ودون ادراك مدي تأثيرها علي الناس، ومنها "الليبرالية "و"العلمانية" و"المجتمع المدني" و"الاقليات"، و علم النفس اللغوي يري أن اللغة اذا لم تحدث تأثيرا في النفس فلن تؤدي رسالتها في التواصل الذي هو اصلا الهدف من اي لغة، ومنذ 200 عام انتشرت مجموعة من المصطلحات في الثقافة العربية لكنها وافدة من الغرب، والسؤال: لماذا لاتؤثر تلك الالفاظ في الناس،وتثير ردود افعال معارضة تصل الي المساواة بين العلمانية والكفر أو الالحاد، في حين أن الفاظا اخري لا تحدث نفس التأثير، رغم انها من مكونات العلمانية مثل العلم والعقل والتقدم، فلا أحد يعترض عليها، لكن تظل العلمانية من المصطلحات التي ليس لها رصيد في الموروث اللغوي الثقافي الشعبي بين القطاعات العريضة من الشعب في الريف وبين العمال. العلمانية هي ترجمة للفظ غربي وتحوير للفظ لاتيني Secularism ، يعني العصر أو العالم أو الزمن، ويتابع د.حسن" : لو اردت ان انبه الناس الي ان يكونوا معاصرين ويعيشوا دنياهم ويحدثوا انفسهم، فلدي من المصطلحات ما يؤدي هذا الدور وهي ليست مترجمة، وانما موروثة وتحظي بالقبول ولايعترض عليها احد، فلماذا لا نستعمل لفظ" الاصلاح، او" الاجتهاد" فهي مصطلحات تؤدي نفس الغرض لمصطلح العلمانية، ويقرر د. حسن قائلا" الاسلام دين علماني، فالاجتهاد مصدر من مصادر التشريع وهو دين ضد الكهنوات والشعائرية الفارغة، فهو ضد الصيام لمجرد الاحساس بالجوع، وضد أن تكون الصلاة مجرد ركوع وسجود، والشهادة تبدأ بالنفي " لا اله الا الله" وهي اعلان للتحرر من كل الالهة، ومقاصد الشريعة الخمس هي الحفاظ علي الحياة والعقل والدين والعرض والمال، حتي في القرآن الاولوية للواقع علي النص فيما يسمي بأسباب النزول، التي تدرس الحدث والزمان والبيئة والناس، والوحي دائما هو اجابة عن سؤال "ويسألونك عن". ويعتقد د. حسن أن هناك امكانية لغرس العلمانية من جديد في ثقافتنا الموروثة، من خلال بيان أن الاسلام نظام اجتماعي وهذا ما تريده العلمانية، الاسلام ضد السلطة الدينية واحتكار التفسير، وفي الاسلام الصواب متعدد، والعلمانية ضد العقائد المتنافية مع العقل والعلم وليس في الاسلام ما يتنافي مع العقل او العلم، والعلمانية ضد المعجزات، وليس في الاسلام معجزات وانما اعجاز لغوي ادبي في القرآن الكريم، وعندما جاءت اعرابية للرسول تسأله عن دينه الذي يدعو له، قال: لا تقتلي، قالت: ومن يقتل، فقال: لا تسرقي، قالت: ومن يسرق، قال: لاتزني قالت: ومن يزني.. ما هذا؟؟ انت لم تأت بجديد، فقال لها الرسول: اذن اذهبي فأنت مسلمة". وينتهي د. حسن الي اننا اصبحنا الآن امام خطابين، الاول يعرف ماذا يقول، خطاب يدعو للحرية والتقدم لكنه لا يعرف كيف يقوله، ويستخدم الفاظا غيرمؤثرة، الخطاب الآخر يعرف كيف يقول حيث يستخدم الفاظا تؤثر في الناس كالدين والله والرسول، لكنه لايعرف ماذا يقول فلا يوجد شيء حقيقي يدعو اليه، ولهذا فنحن الآن بحاجة الي خطاب يعرف ماذا يقول وكيف يقوله. إغفاءة عقلية ويحكي د.صلاح قنصوة -استاذ الفلسفة- واقعة يعتبرها دليل علي تقهقرنا الي الوراء عشرات السنين، فاصبحنا نناقش ما كان مستقرا وبديهيا، بعد أن دخلنا في اغفاءة عقلية طويلة، فيقول"عندما كان يتم التحضير لتنصيب الملك فاروق عند توليه حكم مصر، اقترح مصطفي المراغي-شيخ الازهر- ان يتم ذلك علي طريقة الملوك والاباطرة في اوروبا، وان يقوم بإهدائه سيف الملك، فتصبغ المناسبة بالطابع الديني، فثار مصطفي النحاس وقال نحن دولة علمانية، ولم يثر عليه احد ولم يحظ بالاحتقار الذي يحظي به من يستخدم هذا اللفظ في وقتنا الحالي، والمرة الثانية التي استخدم فيها النحاس باشا لفظ العلمانية،عندما زار نهرو القاهرة في آخر وزارة للنحاس في عام 1951، فلما سأله عن طبيعة الدولة في مصر وهي متعددة الاديان،اجاب النحاس: نحن دولة علمانية، ونشر الحديث في كل الصحف ولم يخرج احد ليقول "ما العلمانية". وظل النحاس باشا سياسيا ذا شعبية كبيرة. ويضيف قنصوة" اردوغان عندما جاء الي مصر وشرح العلمانية قال إنها وصف للدولة وليس لشخص او لفرد وهي أن تكون الدولة علي مسافة متساوية من كافة الاديان، وأصل الكلمة" سرياني " فكلمة "عالمايا" بالسريانية تعني "الشعب" وهناك مصدران لكلمة العلمانية، الاول لاتيني من" سايكولوم" وتعني حرفيا القرن أو الجيل، وهناك اصل يوناني يستعمله الفرنسيون ودول المغرب العربي وهي "اللائكية" واصلها من اليوناني"لايوس" وتعني الشعب ايضا او عامة الناس، وهم علي خلاف رجال الدين، و لدي الاقباط في مصر مجلسان: الاول المجمع المقدس ويضم رجال الدين، والثاني هو المجلس الملي ويضم العلمانيين . تناقض من جانبه أشار د.انور مغيث: الي مفارقة غريبة وهي انه عند مناقشة موقف الاسلام والمسيحية من العلمانية سنفاجأ برأيين متناقضين، الاول يري أن الاسلام دين علماني لانه لا يوجد به ما يعرف برجال الدين وضد أن يتحكموا في الناس، ويتم الاستشهاد بحديث الرسول -صلي الله عليه وسلم-" انتم اعلم بشئون دنياكم"،علي عكس المسيحية التي يحدد فيها رجال الدين للناس كل امور حياتهم وبالتالي فهي ضد العلمانية، اما الموقف الثاني فيري ان المسيحية علمانية استنادا لعبارة المسيح «اعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر»، اي الفصل بين السلطتين الدينية والزمنية، في حين يعتبر الاسلام دستورا شاملا للحياة لم يترك صغيرة ولا كبيرة الا وبين للناس حكمه فيها، وهكذا فالتبريرات مختلفة حسب المنبر وحسب متلقي الخطاب في الداخل أم في الخارج!! ويلفت د. أنور الي ان قبل القرن السابع عشر لم يكن هناك خلاف حول نوع الدولة ولم يكن هناك ذكر للعلمانية فالشرعية هي للحكم الديني في كل انحاء العالم، وبدأ البحث في علاقة الدين بالدولة مع تطور البشر علي مر التاريخ، مثل أي أمر آخر يتطور مع الزمن، فمنذ 200 عام مثلا لم تكن هناك فتيات يتعلمن في المدارس، لا في الشرق او الغرب، الآن اصبح ذلك منتشرا في كل دول العالم باختلاف الاديان. ويوضح د. انور ان للعلمانية اسس معرفية، اهمها ارتباطها بالحقيقة، فبعد أن كانت الحقيقة مرتيطة بما هو بين دفتي كتاب مقدس، اصبحت الحقيقة قائمة علي العلم، العلمانية مرتبطة ايضا بتحقيق المنفعة العامة، كما ان هناك علاقة للعلمانية بالاخلاق التي هي موجودة قبل الاديان، لكن الاخيرة ساهمت في بلورتها، والعلمانية تعني الانتماء الي الانسانية والتحرر من فكرة الثواب والعقاب، فالعالم يحارب الرق والسخرة والتمييز بكل انواعه انطلاقا من انتمائه للانسانية، ويكافحها بغض النظر عن دينه، أو ربط ذلك بالحصول علي الثواب او تجنب العقاب، اما عن علاقة العلمانية بالقانون فهي تعتمد علي القانون الوضعي، الذي يضمن الالزام والمرونة حسب تطور البشر،والقوانين يضعها الانسان ولا تأتي من السماء، والا لما كان هناك حاجة الي البرلمانات . اما العلمانية في السياسة فتعني أن المواطن حر في ممارسة شعائر دينه، والمسلمون في اوروبا متمسكون بالعلمانية لانها هي التي تتيح لهم حق المطالبة ببناء المساجد، والدولة وظيفتها حماية المواطنين من تسلط رجال الدين، وليس لها أن تستغله من اجل تحصين نفسها ضد النقد او لتبرير سياساتها، او تشويه المعارضين، و يعتبرد.مغيث ان ظاهرة الفتاوي" التفصيل" خير مثال علي استغلال السلطة السياسية للدين، ويستشهد بعبارة المفكر الانجليزي جون لوك وهي" ان الدولة لاتضمن لمواطنيها دخول الجنة وبالتالي ليس من حقها ان تجبر احدا علي الصلاة". الإعلام غائب أثار الحضور في مداخلاتهم عددا من القضايا ذات الصلة، حيث حذر احدهم مما يثار حاليا عن المطالبة باطلاق اللحي في جهاز الشرطة رغم انه من المفترض ان تتسم كل من مؤسستي الشرطة والجيش بالحياد التام تجاه الدين، وقال انه لايستبعد لاحقا ان ينتقل مجلس الشعب بعد ذلك ليعقد جلساته في خيمة، بينما طالب عدد من الشباب الحاضرين بأن يهتم المثقفون بالوصول الي الشباب لانهم متعطشون بالفعل الي الفهم، وان يكفوا عن مخاطبة انفسهم من خلال الندوات التي لا يحضرها الا النخبة، وهنا علق د. مصطفي النشار- مدير الندوة- بأن الاعلام غائب تماما عن مثل هذه النوعية من الانشطة، رغم انه من المفترض ان يلعب دورا كبيرا في التنوير.