لعل أبلغ الدروس التى علينا اليوم استذكارها اليوم ونحن نعيش لحظات صدام كبرى بعد أحداث 30 يونيو بين أبناء الوطن من إسلاميين وقوى يسارية وقومية وجيش وطنى ؛ إن أبلغ الدروس هى فى البحث عن العدو المشترك ، واتخاذ مواقف واضحة ضده ، والدفاع وبقوة عن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، عن القدسوفلسطين ففى هذا – لو يعلم الجميع- علاج لصراعات الحكم والسلطة التى نعيش فتنتها اليوم ، إن التاريخ يحدثنا بأن الصراع فى فلسطين ، فى أصله ومساره ومستقبله هو صراع دولى بين أمة عربية وإسلامية تريد التحرر والاستقلال ، وبين استعمار غربى يريد الهيمنة والاحتلال ، استعمار رأس حربته كانت – ولاتزال – فى زمن الثورات العربية – هى إسرائيل ، هذا البعد نزعم أن عبد الناصر أدركه ، وحاول أن يتعامل معه بجدية لكن التحديات ضده كانت أكبر وأشد ، ولذلك قامت حرب 1967 بغطاء دولى واضح .. لقد تحدثنا فى المقال السابق عن مدركات (ناصر) للصراع ، ونحسب اليوم أن هذه المدركات هى المدخل الطبيعى لتحديد تصوره ومنطلقاته فى إدارة الصراع العربى الإسرائيلى ، إدراك عبد الناصر لقدرات الأمة العربية ، وإدراك عبد الناصر لقدرات إسرائيل .. إدراك عبد الناصر لموقع إسرائيل على خريطة القوى المعادية للأمة العربية.. كل هذا جعل عبد الناصر يخرج بتصور أساسى لإدارة الصراع العربى الإسرائيلى هذا التصور كانت له منطلقاته الأساسية والتى يمكن تحديدها فى الآتى : (1) أن إدارة الصراع تنطلق من مبدأ رئيسى وهو أن هذا الصراع صراع طويل الأجل .. وليس صراع القوة المسلحة أو المواجهة العسكرية المباشرة فوق بقعة واحدة إنه صراع متعدد الأطراف (الإمبريالية–الرجعية–الاستعمار–إسرائيل) إنه صراع طويل الأجل متعدد الأطراف. فهل يدرك الثوار – والحكام – الجدد لبلادنا بعد ثورات الربيع العربى هذه الحقيقة أما أنهم تائهون وغارقون حتى رؤوسهم فى أزمات الداخل ، وصراعات (الخبز) و(السلطة) ! (2) أن حل الصراع العربى – الإسرائيلى يأتى من حل الصراع العربى – الغربى بأبعاده الأيديولوجية والاجتماعية وبأبعاده التاريخية الحضارية . إن عبد الناصر كان يكرر دائماً أن حسم الصراع لا يمكن أن يتم فى الأجل القصير أو المتوسط أو بالقوة العسكرية فقط إن حسم الصراع له مستوياته ودرجاته ، من أمثلة الإحالة للأجل الطويل ، يقول عبد الناصر للصحفى الهندى كرانجيا "سيعودون ، ولقد جاء وقت فى الماضى استطاع فيه الاستعمار المستتر بالصليبية احتلال أرضنا فى فلسطين لمدة 70 عاماً طوالاً ولكن العرب واصلوا القتال من أجل أرضهم إلى أن استعادوها فى النهاية وليس لدىّ شك من أن التاريخ سوف يعيد نفسه " ، إنه الإدراك التاريخى لدى عبد الناصر يوطده الإدراك الأيديولوجى وخبرة عبد الناصر حين حوصر فى الفالوجا 1948 خلقت لديه هذا التصور السابق وهذا المنطلق فى إدارة الصراع . (3) المنطلق الثالث لدى عبد الناصر فى إدارته للصراع العربى الإسرائيلى هو تحديده أن مجال المعركة ومتطلباتها ينصرف أساساً إلى مواجهة العوامل التى تعوق تقدم حركة الثورة العربية التقدمية والتى لخصها عبد الناصر – هنا – فى : أ) ظاهرة التخلف . ب) ظاهرة التجزئة..من ثم صار منطلقه بهذا الصدد تحقيق التقدم والعدل الاجتماعى– السياسى– مضافاً إليه وموطداً له تحقيق الوحدة العربية كوسيلة نحو المواجهة الكبرى. (4) إن ثلاثية " الحرية – الاشتراكية – الوحدة " تعكس المنطلق الأخير والشامل لتصور النموذج الناصرى للمواجهة وإدارة الصراع . *** يمكن الحكم على نموذج عبد الناصر فى إدارته للصراع العربى الإسرائيلى بأنه نموذج ناجح ،رغم التحديات الرهيبة على الارض ورغم انكسار 1967 الرهيب .. حيث فهم عبد الناصر جيداً طبيعة الصراع والتى تتحدد فى أنه صراع تاريخى حضارى وبالتالى إدارته تنطلق من التنمية الحضارية للأمة العربية ومن المواجهة طويلة المدى لصراع طويل المدى متعدد الأطراف .. حدد عبد الناصر الصراع ثانياً بأنه صراع أيضاً أيديولوجى .. وبالتالى كان منطلقه لمواجهته هو تحقيق العدل والاشتراكية لمواجهة خصم لا يؤمن بهذه المبادىء .. عدو يقع فى قمة سلم المواجهة العربية – الغربية التى هى أساس الصراع الأيديولوجى مع العدو الصهيونى ودائرته الأرحب . * فى ضوء سياسات واشنطن وتل أبيب فى زمن الثورات العربية يتأكد لدينا نحن المؤرخين والباحثين فى الصراع العربى الصهيونى أن النموذج الناصرى فى إدراك وإدارة هذا الصراع يعد نموذجاً ناجحاً لأنه أدرك الطبيعة الحضارية والتاريخية والأيديولوجية لهذا الصراع .. فكون بهذا تصوراً واضحاً عن الصراع وأطرافه المتعددة .. وبعد بناء (ناصر) لهذا التصور خلق المنطلقات الأساسية لإدارته فجاءت منطلقاته حضارية وأيديولوجية .. وحركية أيضاً فى صراع شامل وكلى. إن إدراك عبد الناصر ودقة فهمه لطبيعة الصراع العربى - الإسرائيلى .. ثم تصوره الصحيح تجاه الصراع وبالتالى منطلقاته .. جميعه يثبت نجاح نموذجه فى إدارة الصراع .. وبالتالى صحة الرؤى التى وصفته ونظرت إلى تجربته فى مجملها بأنها تجربة زعيم وطنى وقومى صلب فى مواقفه ، وبخاصة مع العدو الصهيونى رغم التآمر الدولى عليه والذى بدا جلياً فى حرب 1967 ، ولكنه تعافى منها فوراً بحرب الاستنزاف ، وبالاستعداد الناجح لحرب 1973 التى كان بحق هو بطلها الغائب ، الذى لم يمهله القدر ليجنى ثمار غرسه فى إعداد جيشه ودولته وشعبه للعبور والجهاد !! . * ترى هل يجوز أن نقول ، ونحن فى الذكرى ال 61 لثورة يوليو ، ما أشبه الليلة بالبارحة ، فالعدو هو العدو ، وخنادق حلفائه لاتزال كما هى ، ربما المتغير الوحيد المهم اليوم ، هو متغير (الثورات الجديدة) فهل بإمكان هذه الثورات أن تعيد فهم الصراع وإدارته كما فعله عبد الناصر ؟ وهل تستطيع أن تتلافى نكبة جديدة و(1967) جديدة ؟ من خلال الوعى وتوجيه بوصلة الصراع إلى اتجاهها الصحيح ؛ فلسطين والأقصى بعيداً عن صراعاتها الداخلية الدامية التى تكاد تنسيها ليس (فلسطين) فحسب ، بل ومصر الدولة والوطن أيضاً ؟! أسئلة برسم المستقبل .