بعيداً عن الأحداث الدامية فى مصر ، والتى لن تهدأ فى تقديرنا إلا بعد أن يقتنع كافة الفرقاء أنه لا غنى لأحدهم عن الآخر وأن الإقصاء مصيره الفشل ، وأن العنف والعنف المضاد لا يبنى وطناً ، وأن لغة الحوار بين كافة الفرقاء هى الأساس فى بناء مصر المستقبل خاصة بين (الإسلاميين) وباقى القوى الوطنية وبين الجيش الذى صار رقماً مهماً فى المعادلة السياسية لا يمكن تجاوزه ، نقول بعيداً عن هذا تعالوا نبحث عن العدو المشترك ، ففى زمن ما سُمى بالثورات العربية الجديدة ، والتى سقطت فلسطين من أجندتها جميعاً وانشغل ثوارها بفتات السلطة على وطن فقير معدم وبلا إرادة سياسية مستقلة ، فى هذا الزمن دعونا نعيد التذكير بتجارب الصراع مرة أخرى علها تفيد ، وتساهم فى إحياء قيم المقاومة والجهاد ، فى هذا السياق نتذكر عبد الناصر ونموذجه فى إدارة الصراع مع العدو الصهيونى ، والذى مهما اختلفنا معه – أى عبد الناصر – وهو اختلاف واجب من أجل مصر ، فإنه سيظل بتجربته القومية والنضالية ، مهماً للغاية لإدارة صراعنا مع (الكيان الصهيونى) فى زمن الثورات العربية الجديدة ، بل حتى لحظات الانكسار والهزيمة (مثل 1967) من الممكن بل من الواجب الاستفادة من دروسها وعبرها ، خاصة مع الذكرى الحادية والستين لثورته ، ثورة 23 يوليو 1952 . يحدثنا التاريخ أن مصر فى زمن عبد الناصر ، واجهت ثلاثة حروب كبيرة ، الأولى انتصرت فيها (1956) والثانية (1967) هزمت وضاعت فيها سيناء ، أما الثالثة فهى حرب الاستنزاف (67-1970) والتى انتصرت فيها مصر رغم جسامة التضحيات ، وهى حرب غلب عليها الذكاء الاستراتيجى فى مواجهة العدو عبر حروب العصابات والإلكترونيات الحديثة وقتها ، والتجسس وهى الحرب أيضاً التى مهدت الأرض للانتصار الكبير فى أكتوبر 1973 . إن هذه الحروب الثلاثة استطاعت أن تشكل فى مجملها تجربة ناصرية عريضة لإدراك وإدارة الصراع إذا ما تمعنا فيها وأعدنا قراءتها ، فربما نستطيع أن نتعامل مجدداً وفى زمن الثورات العربية مع الكيان الصهيونى بما يليق بموضع مصر ودورها ؛ إن تجربة عبد الناصر فى إدارة الصراع العربى الصهيونى ، رغم الانكسارات والتحديات ، يمكن بلورتها فى ثلاثة محاور ، فى تحليلها ، نخرج بما يمكن تسميته بالنظرية السياسية الناصرية فى إدارة الصراع فماذا عنها ؟ . *** المحور الأول : إدراك عبد الناصر للصراع العربى – الإسرائيلى وطبيعته : يوضح الموروث الفكرى للرئيس عبد الناصر (خطب – أحاديث – رسائل – كتابات.. إلخ) أن إدراكه لطبيعة الصراع العربى الإسرائيلى تتحدد فى بعدين رئيسيين : البعد الأول : أن الصراع العربى الإسرائيلى صراع حضاري بالأساس ، صراع بين الأمة العربية" ضد " الغرب " ممثلاً فى الغزوة الصهيونية .. ومن قبل فى الغزوة الصليبية التى أتت متدثرة برداء المسيحية . البعد الثانى : أن الصراع ليس حضارياً فقط ولكنه صراع أيديولوجى أيضاً ، فالأمة العربية تخوض صراعاً ضد الغرب الرأسمالى – الإمبريالى – الاستعمارى وإسرائيل هى المقدمة والرأس لهذا الغرب . *ولقد تفاعل البعد الأول والبعد الثانى وامتزجا فصارت توليفة من الإدراك المتسق المتكامل لدى عبد الناصر لطبيعة الصراع .. إنه صراع حضارى تاريخى – وأيديولوجى معاصر وهنا تظهر شمولية الرؤية وكليتها فى نموذج عبد الناصر لفهم وإدراك الصراع ولإيضاح البعد الأول يقول عبد الناصر : " لقد وجد الاستعمار أنه لم يستطع طوال السنوات الماضية ،بل طوال 800 سنة أن يقضى على هذه القومية ، لأن الشعب آلى على نفسه أن يحارب وأن يكون هو الجيش الكبير ، وحينما حلت الحرب العالمية الثانية ورأى الاستعمار أنه قد يستطيع الخديعة والوعود الزائفة الكاذبة بالاعتماد على أعوانه من الخونة أن يضلل هذه الأمة العربية ثم وضعها تحت سيطرته وفى قبضته ثم يعمل ليقضى على قوميتها هب الشعب العربى فى كل مكان يدافع عن حريته ويدافع عن استقلاله ، فبعد الحرب العالمية الأولى التى وعدنا فيها الاستعمار ووعدنا فيها الحلفاء بالاستقلال رأينا كيف تصرف القائد الفرنسى حينما دخل إلى دمشق فزار قبر صلاح الدين وقال : ها قد عدنا يا صلاح الدين ، وكأنه قد تخيل أنه نجح فيما فشل فيه أجداده من الصليبيين وكأنه يعتقد أنه يستطيع أن يقضى على القومية العربية التى فشلوا ثمانمائة عام فى أن يقضوا عليها ، وحينما دخل القائد البريطانى الجنرال اللينبى إلى بيت المقدس قال " اليوم انتهت الحروب الصليبية " .. بعد 800 عام من الحروب الصليبية كانوا يضمرون فى أنفسهم أمراً ، يضمرون فى أنفسهم القضاء على هذه القومية العربية والسيطرة على بلاد العرب جميعاً " . * من هنا يتضح مدى عمق الفهم والإدراك للبعد الحضارى – التاريخى للصراع العربى – الإسرائيلى لدى عبد الناصر .. إنه البعد الأول فى دقة وعمق وشمولية فى التحليل والرؤية . أما البعد الثانى فيظهر أيضاً لدى عبد الناصر فى أغلب أعماله ومواقفه .. فهو يقول "إن الأرضية الصلبة وراء الصراع العربى – الإسرائيلى هى فى الواقع وعلى وجه الدقة أرضية التناقض بين الأمة العربية الراغبة فى التحرر السياسى والاجتماعى وبين الاستعمار الراغب فى السيطرة وفى مواصلة الاستقلال " إنه البعد الأيديولوجى – الاجتماعى للصراع العربى الإسرائيلى كما يدركه عبد الناصر . إن عبد الناصر يلخص إدراكه لطبيعة الصراع فى : "أن هناك معركة واحدة على الأرض العربية ، معركة يقف فيها الاستعمار وأعوانه فى جانب ويقف الشعب العربى كله فى الجانب الآخر ، وأرض فلسطين الطاهرة هى واحدة من البقاع التى تدور عليها هذه المعركة ، ولن نتمكن من الانتصار فى الجبهة الفلسطينية ما لم تنتصر قواتنا على كافة الجبهات !! ، إن عبد الناصر يؤكد هنا أن الصراع ليس فقط مواجهة عربية إسرائيلية ، ولكنه أيضاً صراعاً عربياً – غربياً ، وصراعاً أيديولوجياً مع الاستعمار والإمبريالية والشركات متعددة الجنسية وإسرائيل .. صراع أيديولوجى – اجتماعى ، وسنتحدث فى المقال القادم عن محورى إدارة الصراع ، ودروس التجربة التى من الممكن الاستفادة منها فى زمن الثورات العربية الجديدة وبعيدا عن فتنة السلطة الدائرة فى مصر اليوم !! . (وللحديث بقية فى الأسبوع القادم)