تفاصيل المؤامرة على الجيش المصرى لم تكن الصورة التى رفعها ملايين المصريين يوم 26 يوليو الحالى وتجمع الرئيسين عبد الناصر والسادات مع الفريق السيسى وزير الدفاع إلا تعبيراً عن حلم راود المصريين طويلاً وهو أن يظهر منهم "بطل قومى" جديد ينحنى له العالم .. ينفذ مشيئة المصريين حتى ولو تعارضت مع مصالح ربة الكون الولاياتالمتحدةالأمريكية .. والأبطال "القوميون" يظهرون فى توقيتات تاريخية ولحظات فارقة فى تاريخ الشعوب .. فعبد الناصر كان ملهماً لحركات التحرير من الاستعمار بالعالم العربى وافريقيا .. وأول من حقق العدالة الإجتماعية .. خسر حرباً ولم يستسلم ووقف الشعب ورائه والأمة العربية كلها رغم خلافاته معهم وجهز الجيش الذى حارب فى 73 .. والسادات صاحب قرار العبور بطل نصر أكتوبر المجيد وهو أول انتصار للعرب على إسرائيل .. وقد حقق السلام أيضاً بأفضل ما كان متاحاً وقتها ولم يسعفه القدر لاستكمال تنمية وتعمير سيناء .. المصريون ليسوا سذجا فقد أدركوا أن هذا الجنرال المولود عام 1953 هو "الفارس" المنتظر.. تخليص مصر من "الإخوان" رآها المصريون "ضربة معلم" .. السيسى أعطى درساً للولايات المتحدة وأوروبا ودول الغيبوبة العربية (قطر وتونس) بثباته على موقفه وصلابته .. ما زاده قوة أنه بحكم سابق خبرته كمدير للمخابرات الحربية يعلم أن المصريين متدينون ولكنهم يرفضون تجار الدين وحملة الشعارات والتكفير .. لذلك عندما طلب الجنرال من الشعب أن يفوضه فى القضاء على الإرهاب ، خرج 33 مليون مصرى يقولون له بالصوت والصورة والعواطف والمشاعر "اطلب تلاقى" .. أن الشعب المصرى عندما خرج فى 30 يونيو وعاود الخروج فى 4 يوليو ثم الخروج الأعظم فى 26 يوليو كان يدافع عن مجموعة من الأهداف آخرها هو التخلص من "الإخوان" .. خرج المصريون أيضاً لإنقاذ الجيش من شبهة الإنقلاب العسكرى ، كما أن المؤسسة العسكرية المصرية خرجت تحتمى للمرة الأولى فى تاريخها بالشعب وليحتمى الشعب بها .. هذا ما دحض فكرة خروج الجيش على الشرعية ، ولكن القوات المسلحة خرجت لتساند أقوى شرعية فى العالم .. إنها شرعية الملايين .. لقد عرف الشعب أن هذا الجنرال الذى أرسلته السماء لإنقاذ مصر من ارتداء عمامة الدين التى كادت تنتهى بنا إلى أن نصبح كأفغانستان وباكستان واليمن والصومال ، لم يكن يتصدى فقط لإرهاب الإخوان فى مصر ومحاولتهم اختطاف الدولة ، ولكنه كان أيضاً يتصدى لنظرية الفوضى الخلاقة التى ابتدعتها كونداليزارايس وزيرة الخارجية الأمريكية فى عهد جورج بوش الأبن والتى كانت تعتمد أساساً على الإسلام السياسى .. الفوضى المتخفية السيسى أدرك مبكراً منذ أن تولى مسئولية المخابرات الحربية أن هناك نظرية جديدة طورتها إدارة أوباما وهى "الفوضى المتخفية" والتى اعتمدت على تدمير البنية العسكرية للجيوش العربية القوية مثل العراق وسوريا .. وطبعاً كل هذا لصالح إسرائيل .. الجنرال الذى أحبه الشعب فى أقل من شهر .. واحتلت صوره شرفات المنازل واسطح العمارات وواجهات المقاهى وأيادى الأطفال والنساء والرجال .. كان يعلم أن الجيش هو "قلب مصر الصلب" أو قلبها الداعم" للدولة .. ولنكن أكثر تحديداً ، فهو الميزة الوحيدة لمصر فى الوقت الراهن بعد أن فقدت قوتها الناعمة مثل الثقافة والقانون والعدالة الاجتماعية نتيجة لعقود من الإهمال والتراخى والفساد .. وعندما قال الفريق السيسى فى خطابه أن الجيش المصرى أسد ، والأسد لا يأكل أولاده كان على حق ، فهو يعرف قدرات المؤسسة التى ينتمى إليها ومكانتها ، لذلك هو مدرك للأخطار المحدقة به وبجيشه ..هناك إذاً من يريد تحطيم الجيش المصرى ، بمعنى تحطيم القلب الصلب للدولة المصرية . هذا التحطيم إذا حدث سنصل مع الوقت إلى صراعات داخلية بين عشرات الجماعات المتطاحنة ، سياسياً وعرقياً ، ستسيل الدماء بغزارة إلى أن يأتى يوم الكشف عن الدولة أو الدول الجديدة. هذا الموقف تمت تجربته فى العراق منذ ثلاثة وعشرين عاماً ، ومع ذلك لم تكف براكين الدماء عن التدفق ، ولم تصل الدولة إلى مبتغاها ، ولم تتحقق النظرية السياسية المتعلقة بالفوضى بأى شكل من الأشكال ،لأن الصراع على أرض الواقع تم استنساخه من صراع الرياح والأعاصير ، وصراع البكتيريا والفيروسات ، ولكنه هنا صراع الطبيعة الذى لا يمكن تطبيق قوانينه إلى أن يشفى المريض، لكن الإحتمال الثانى هو أن يموت هذا الجسد وهو ما يعنى أن سيطرة الإسلام السياسى وغيره من جماعات المصالح سيعنى فى النهاية موت الدولة المصرية وتحللها كجسد كبير إلى دويلات ضعيفة إن ترك الأمر لتحقيق مفهوم الخلافة الإسلامية ، وهو مفهوم أيدولوجى تخطاه الزمن ، فالهدف هو الوصول إلى الفوضى التى ستدمر الباقى من دولة الخلافة القديمة. هناك أيضاً من يريدون القضاء على الجيش المصرى الكبير لكسر الإرادة المصرية ، فتتحول مصر مع الوقت إلى ساحة للفوضى كالساحة الأفغانية والصومالية . هنا لا ننسى الوثيقة التى ظهرت أخيراً لتشير وبمنتهى الوضوح إلى أن مصر فى المركز الأول بين الدول العربية فى التصنيف السنوى لأقوى الجيوش فى العالم لعام 2013 ، هذه الوثيقة التى أصدرها موقع "غلوبال فاير باور" لامتلاكها 468 ألف جندى و 863 طائة حربية وموازنة مخصصة للدفاع تقدر بحوالى 4.1 بليون دولار. كان ذلك فى 14 (يونيو) الماضى. وعلينا أن نلاحظ أن إتفاقية كامب ديفيد على رغم توقيعها قبل أكثر من 35 عاماً إلا أنها لم تمنع إسرائيل من التجسس على مصر ومراقبة جيشه ، وهى تفعل ذلك ليظل ميزان القوى العسكرية فى مصلحتها ، فهى تحصل وفى شكل مستمر على أفضل الأسلحة وأكثرها تطوراً من الولاياتالمتحدة ، ولذلك فمن مصالح إسرائيل الإستراتيجية أن تظل مصر تكنولوجياً فى مرتبة تالية لها . لكن الجيش المصرى يتفوق على الجيش الإسرائيلى فى عدد جنود الاحتياط والمدفعية والمدرعات والسفن القتالية. الاسترزاق وهناك أعداء ليسوا طبيعيين ولكنهم دائماً فى هزاتهم المالية يبحثون عن تلك الدول التى يمكن هدمها وإعادة بنائها من جديد وبمقابل خيالى يعوض خسائر هذه الأسواق ، الدول التى يمكن أن تعقد صفقات هائلة لشركات ضخمة يمكنها إعادة التوازن لسوق المال العالمية ، وبمقابل ضخم هؤلاء يتمثلون فى الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا ، وحدث ذلك مع الجيش العراقى ، حين تم الإيحاء لصدام حسين بغزو الكويت لتدفع العراق فاتورة من أكبر فواتير الحروب فى التاريخ ، حين تمت تصفية الجيش العراقى كله وتحطيم البنية التحتية فى العراق . ووفق دراسة حديثة فإن كلفة الحرب العراقية بلغت 2.2 تريليون دولار ، فيما كانت إدارة بوش تتوقع أن نفقات الحرب لن تزيد على 50 بليون دولار . أما الكلفة من البشر فوفقاً للدراسة نفسها فإن أكثر من 70 فى المئة من الذين لقوا حتفهم نتيجة أعمال العنف المباشرة للحرب ، أو ما يقدر بحوالى 134 ألف شخص كانوا من المدنيين. وشكل الأميريكيون عدداً قليلاً من بين القتلى ال 190 ألفاً ، إذ بلغوا 4486 قتيلاً من العسكريين وما لا يقل عن 3400 قتيل من المقاولين. الغريب أن الإتجاه لإدخال العراق فى تلك الحروب كان عقب الأزمة المالية العالمية التى حدثت عام 1989 حين أطلقت الصحافة العالمية اسم "الاثنين الأسود" على 19 (أكتوبر) 1989 ، عندما انهارت بورصة نيويورك ، وتسبب المستثمرون المزعورون فى هبوط مؤشر "داوجونز" بمقدار 508 نقاط فى يوم واحد وسرعان ما انتشر هذا الذعر الذى بدأ فى بورصة "وول ستريت" إلى باقى بورصات العالم ، وسادت الفوضى أسواق المال العالمية. وثار وقتها سؤال: من يمكنه دفع هذه الفاتورة ؟ كان العراق حاضراً ومعه دول الخليج العربى ، وبحسابات بسيطة سنجد أن الفاتورة دفعت كاملة. تم تدمير البنية التحتية فى العراق ، وتدمير الجيش العراقى ،وتحول العراق إلى مستنقع للجماعات المتطرفة ، تحكمه نظرية الفوضى المنظمة من دون أية أيدولوجيات مسبقة. حينما بدأت ثورات الربيع العربى وانتهت ، جاء فى تقرير نشر فى أكتوبر 2011 أن كلفتها بلغت 55.84 بليون دولار وشمل ذلك ست دول هى ليبيا, سوريا , مصر , تونس , البحرين واليمن. وأشار مركز "جيوبوليسيتى"الذى أعد التقرير الذى نقلته شبكة "سى إن إن" إلى الخسائر فى الإنتاجية كنتيجة للصراعات أو الانتفاضات فى 6 دول عربية مرت أو تمر بإتعدام استقرار كبير ، معتمداً فى ذلك على بيانات صادرة من صندوق النقد الدولى ، واوضح أن الكلفة الإجمالية للثورة فى ليبيا بلغت 14.2 بليون دولار ، بينما وصلت فى سورية إلى 27.3 بليون دولار ، أما فى مصر بلغت 9.79 بليون دولار ، وفى تونس 2.52 بليون دولار ، فى حين بلغت فى اليمن 0.98 بليون دولار. وها هى سورية تدخل النفق ليتم تدمير الجيش ويتم تدمير البنية الأساسية ويتم إتباع سياسة الأرض المحروقة من الطرفين ، والقتلى يتساقطون والدماء تسيل والدولارات تحترق ولا مستقبل للاستقرار. هنا ، نأتى إلى الجماعة الثالثة التى تنتظر وصول نظرية الفوضى المنظمة ومن سيدفع الفاتورة ، لم يعد باقياً وفى شكل لافت على كل تلك الخريطة سوى الجيش المصرى ، العراق وسورية وليبيا تم تدميرها أو يتم ، المصريون أصبحوا الحاجز والعائق الوحيد ، هذا العائق الذى إذا تم تدميره أصبح المجال أمام إسرائيل وأميركا مفتوحاً للعب والتشكيل وإعادة التشكيل فى شكل الدولة المصرية ، ويصبح الأمن القومى المصرى كله كأنه ليس موجوداً ، ولتتحول مصر إلى دويلات صغيرة ، ولينتهى تاريخ عميق للدولة عمره عشرة آلاف عام ، هذا هو السيناريو الوحيد الذى أراه ، ولذلك يتم تعزيز جماعات التطرف ودعمها ، ولأن مصر ليست العراق ولا سورية ولا ليبيا لأسباب كثيرة ، فإن نقطة الضعف المصرية تتم تربيتها على مهل منذ تلك اللحظة التى أمر فيها السادات بإخراج جماعات الإسلام السياسى من السجون ، وإطلاق فكرة الدعوة ، ثم لا مبالاة الدولة فى مواجهة تنامى الجماعات التى تدعى السلام الاجتماعى ، وهاهم قد أدخلهم جميعاً السيد مرسى واستدعاهم من أرجاء المعمورة ،وخلال عام تمت إعادة تشكيل سيناء لتصبح موطىء قدم للسلفية الجهادية والجماعة الخارجة وكل أنواع التطرف المعروف وغير المعروف. إذلال أمريكا هذا هو ما فهمه السيسى مبكراً وجعله فى منتهى الصلابة مع أمريكا .. التى أرادت أن تجرب فى مصر النموذج الباكستانى فأحضرت لنا السفيرة آن باترسون التى خدمت فى باكستان وأفغانستان ، وستحاول معنا تجربة النموذج السورى عندما يحل السفير الأمريكى بدمشق محل آن باترسون التى تنتهى مدتها فى سبتمبر القادم .. السيسى أجبر أمريكا على أن تصرح المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية بأن الأمن القومى الأمريكى يمنعنا من تسمية ما حدث فى مصر ب "الإنقلاب".. وأرسل أوباما رسالة للرئيس المؤقت عدلى منصور يقول فيه أن أمريكا "شريك قوى" لمصر وسنستمر فى مساعدة المصريين على تخطى العقبات وإتمام العملية الديموقراطية .. لهجة أوباما مع "السيسى" الصارم والقوى والمحترف ، تختلف عن لهجته مع مبارك .. واشنطن تدرك جيداً الشعبية التى اكتسبها السيسى فى أيام قليلة، وتخشى أن يرشح نفسه رئيساً للجمهورية فى الانتخابات القادمة ، ساعتها سيكون عليها التعامل مع عبد الناصر جديد قومى وعروبى وقبلهما "منقوع" فى الوطنية المصرية .. ليس سراً أن السفيرة الأمريكية باترسون أبلغت واشنطن أن أى رئيس له خلفية عسكرية سيكون خطراً على مصالح أمريكا المستقبلية ، فما بالك لو كان السيسى الذى يدرك ملايين المصريين أنه لا غنى عنه ليقود السفينة فى بحر متلاطم الأمواج .. مصر تحتاج رئيساً مثله .. هادىء وواثق وقوى ولا يتم استفزازه أو جره لمعارك جانبية .. الهدف واضح أمامه ولن يثنيه أحد عن ذلك ..ويبقى شىء هام ، وهو أن هناك قوى ليبرالية لا تريد ما يسمونه حكم العسكر لكن المصريين مقتنعون أنهم يحتاجون هذا الجنرال بشدة حتى لا يتم اختطاف مصر من جديد أو انتزاع جزء من أراضيها أو المساومة على استقلال قرارها .. السيسى نجح دون أن يفكر فى الترشيح ولا يسعى إليه ، وليس هناك أى سياسى مصرى – مع احترامنا لهم جميعاً – يمكنه منافسته الآن ، لأنه ببساطة سكن العقول والقلوب!